تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وقد أشاعت هذه الظاهرة - وأعني: ظاهرة الرحلة في طلب الحديث - جوًّا من الرغبة في التَّحصيل والتَّعلُّم والتَّدقيق في العلوم وتتبُّعها، حتَّى غدت الأساسَ الذي قامتْ عليه العلوم الأخرى، على نَحو ما نعلم عند عُلماء العربيَّة ورحلاتِهم إلى بَوادي الحجاز ونَجد، وقبائل وسط الجزيرة العربيَّة، وكان الأساسُ الذي انطلقت عليه رحلة علماء العربيَّة هو الأساسَ الذي خطَّه من قبلُ علماء الحديث، وأخذه عنهم كلُّ من قلَّدهم في تدوين العلوم المختلفة وتقعيدها.

وقد كان أوَّل العلوم تأثُّرًا بعلم الحديث هو علْمَ التَّفسير وعلوم القرآن؛ ذلك أنَّ وفاة النبيِّ الذي كان يفسِّر للصَّحابة معانيَ القرآن ويفصِّل لهم أحكامه - ألجأهم إلى أحاديثِه وسنَّتِه؛ إذ إنَّه أعلم النَّاس بكتابٍ أُنزل عليه، فراحوا يفسِّرون الكتاب بالسنَّة، وهو ما يسمَّى التَّفسير بالإسناد، الذي كان الإمام مالك بن أنس أوَّلَ من صنَّف فيه، وقد ظل علمُ التفسير، حتى بعد أن استقلَّ واكتمل علمًا قائمًا بذاته، "شديدَ الارتباط بحديث الرسول، ولو في جانب منه على الأقل، وهو جانب التفسير بالمأثور" [6] ( http://www.alukah.net/articles/1/4948.aspx#_ftn6).

وحتى تتبين شدَّة الارتباط بين هذين العِلْمين نقول: إنَّه قد ظهر من بين المحدِّثين كثير من القرَّاء، كما كان منهم - على ما سنرى - كثيرٌ من علماء العربية، نحوِها وصرفِها ولغتها، وقد ذكر ابن قتيبة في كتابه "المعارف" عددًا من هؤلاء القرَّاء المحدِّثين، أمثال الأعمش (ت148 هـ)، وحُمَيد الأعرج (ت130 هـ) وسواهما [7] ( http://www.alukah.net/articles/1/4948.aspx#_ftn7)، وهكذا فقد نشأ علم التَّفسير في ظلِّ الحديث النبوي وبعيْن رعايتِه، وعلى هديٍ من قوانينِه وأُسُسِه التي كان لها الأثر الملحوظ في علوم الدين والعربيَّة.

وقد كان الفقه من العلوم التي تأثَّرت بالحديث، وهو ما دعا بعضَ العلماء إلى أن يدعوهما علمًا واحدًا باسم "علم الفقه والحديث"، ثم استقلَّ علم الفقه عن علم الحديث، ولكنَّه ظلَّ متأثرًا به؛ لأنَّ الكثير من هؤلاء الفقهاء كانوا في الأصل مُحَدِّثين، ومن ثَمَّ فقد طُبقت أسُس علم الحديث وقوانينه وقواعده في علم الفقْه، حتى صحَّ القول: "لولا الحديث لما كان الفقه علمًا مذكورًا" [8] ( http://www.alukah.net/articles/1/4948.aspx#_ftn8).

أمَّا أثر الحديث في علوم العربية، فهو أيضًا من الحقائق التي لا يتطرَّق إليها أدنى شك، ذلك أنَّ الناس لما ابتعدوا عن العصر الذي نزل فيه القرآن وقيل فيه الحديث، كانت الحاجة تبدو مُلِحَّة لشرح كلٍّ منهما، ومن هنا بدأ العمل في ميدان العربية ومعاجمها، ونحن نقرأُ في مقدمات معاجم العربيَّة الكبرى فنرى كلامًا لمؤلِّفيها لا نشتمُّ منه إلا رائحةَ الغَيْرة على القُرآن الكريم، ورغبة في حِفْظِه وتفسير معانيه وتبْيين دقائقه، استمِعْ إلى ابن منظور، صاحب المعجم الذي هو من أكبر معاجم العربيَّة، وهو يقول: "فإنَّني لم أقصد سوى حِفظِ أُصولِ هذه اللغةِ النبويةِ وضبطِ فضلها، إذ عليها مَدارُ أحكامِ الكتابِ العزيز والسُّنَّة النبويَّة؛ وذلك لِما رأيتُهُ قد غلب في هذا الأوان من اختلاف الألسنة والألوان، حتَّى لقد أصبح اللَّحنُ في الكلام يُعَدُّ لحنًا مردودًا، وصار النطقُ بالعربيةِ من المَعايِبِ معدودًا" [9] ( http://www.alukah.net/articles/1/4948.aspx#_ftn9).

وإذا ما طالعنا كتُبَهم ومعاجمهم هالَنا ذلك الكم الهائل من الآيات القرآنية التي دارت عليْها مواد معاجمهم، وهذا لا يدلُّ إلا على شيء واحد، وهو رغبة صادقة في الحفاظ على لغة القرآن والسنَّة.

وللحق نقول: إنَّ الجهابذة من علماء الحديث كان لهم الفضل على علماء العربيَّة ومختلف العلوم الأخرى؛ إذ عنهم أُخذت القواعد والأسس التي يُنطَلَق منها في تدوين كل علم، وإن نظرة متفحصة إلى علوم العربية ونشأتها تبيِّن مدى الارتِباط بين الحديث النبوي كعِلْم، وبين مختلف علوم العربيَّة؛ إذ كان "العصر الذي نشِطت فيه الحركة النحويَّة، ودُوِّنت فيه كتب النحو كان متأثرًا بما نشط فيه من علوم الدين من حديثٍ وفقه، وعلوم العقل من جدل وكلام" [10] ( http://www.alukah.net/articles/1/4948.aspx#_ftn10).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير