كما كان للحديث والفقه والأصول أكبر الأثر في علْم النحو ونشوئه، فقد كان بيْنهما "من المناسبة ما لا يخفى؛ لأنَّ النحو معقول من منقول، كما أنَّ الفقه معقول من منقول، ويعلم حقيقةَ هذا أربابُ المعرفة بهما" [11] ( http://www.alukah.net/articles/1/4948.aspx#_ftn11)، وإنَّ نظرة متفحِّصة لكتُب النحو قادرةٌ على اكتِشاف العلائق الوثيقة بينهما، بل إنَّنا نستطيع أن نستشعر ذلك من عناوين كتُبِهم في النحو، كـ"الأشباه والنظائر"، و"الاقتراح" للسيوطي، و"المفصَّل" للزمخشري، و"البحر المحيط" لأبي حيان الأندلسي، وغير ذلك، ونحن نعلم أنَّ سيبويه - أبا النحو العربي - كان مبدأ أمرِه في حلقات الحديث، وكان هذا شأنَ معظم علماء النحو والعربية.
وقد أبدى علماء النحو إعجابَهم بقواعد المحدِّثين والأصوليين، وأسسهم التي أقاموا عليْها علمهم، فقد نظر الخليل في فقْه أبي حنيفة (ت150 هـ)، فقيل له: كيف تراه؟ قال: "أرى جِدًّا وطريق جد، ونحن في هزْل وطريق هزل" [12] ( http://www.alukah.net/articles/1/4948.aspx#_ftn12)، وقد رُوي أنَّ الجَرْمي (ت225 هـ) ظلَّ يُفْتي الناس في الفقْه من كتاب سيبويه ثلاثين عامًا [13] ( http://www.alukah.net/articles/1/4948.aspx#_ftn13).
وعندما أخذت العلوم يستقلُّ بعضُها عن بعض، وتتوطَّد أركان كلِّ علم على حدة، وتتَّضح سماته - "ظلت أفكار النحاة عالقة بأساليب الفقهاء وأحكامهم، لا يذكرون القاعدة اللُّغوية أو النحوية حتى يبادروا إلى الفقه يلتمسون فيه الشَّبِيهَ والنَّظِير" [14] ( http://www.alukah.net/articles/1/4948.aspx#_ftn14)، وهكذا فقد قامت نظريَّات النحاة وقوانينهم في أساسها على مثال نظريات وقوانين أهل الحديث، الذين يقول عنهم ابن جني: "وهم عِيارُ هذا الشأنِ وأساسُ هذا البنيانِ" [15] ( http://www.alukah.net/articles/1/4948.aspx#_ftn15)، فكان النحاة يقسمون النقْل إلى تواتر وآحاد، كأصحاب الحديث.
قال ابن الأنباري: "اعلم أنَّ النقل ينقسم إلى قسمين: تواترٍ، وآحادٍ" [16] ( http://www.alukah.net/articles/1/4948.aspx#_ftn16)، ثمَّ يذكر تعريفَ المتواتر وشروط نقل التواتر تمامًا كما يذهب إليه أصحاب الحديث [17] ( http://www.alukah.net/articles/1/4948.aspx#_ftn17).
وعندما كان اللغويون يتكلَّمون على مَن تُقْبل روايتُه في اللغة ومن تُرَدّ، كانوا يتكلَّمون على طريقة أهل الحديث، قال ابن فارس: "تؤخذ اللغة من الرُّواة الثقات، ذوي الصدق والأمانة، ويُتَّقى المظْنون" [18] ( http://www.alukah.net/articles/1/4948.aspx#_ftn18)، وقال في موضعٍ آخَر: "يشترط في ناقل اللُّغة أن يكون عدْلاً، رجُلاً كان أو امرأة، حرًّا كان أو عبدًا، كما يشترط في نقل الحديث، وإن لم تكن الفضيلة من شكله" [19] ( http://www.alukah.net/articles/1/4948.aspx#_ftn19).
أمَّا طرق تحمُّل الرواية عند اللغويين، فهي نفسها عند المحدثين، ولا تختلف عنها إلا في القليل النادر، فقد كانت عند المحدِّثين على ثمانية أنواع، هي: السماع من الشيخ، والقراءة عليه، والإجازة، والمناولة، والإعلام، والوصية، والمكاتبة، والوِجادة، وهي عند اللغويِّين ستَّة أنواع، هي: السماع من لفْظ الشَّيخ، أو العربي، أو الملقن، أو الرواة، والقِراءة على الشيخ، والسماع من الشيخ بقراءة غيره، والإجازة، والكتابة، والوجدان، فزاد المحدِّثون المناولة والإعلام والوصيَّة.
وهكذا تتبيَّن لنا العلاقة القائمة بين علوم الدين عامَّة والحديث على وجه الخصوص، وبين علوم العربيَّة على اختلاف أنواعها، حتَّى صدق قولُ السيوطي: "علم الحديث واللغة أَخوان يجريان من وادٍ واحد" [20] ( http://www.alukah.net/articles/1/4948.aspx#_ftn20).
ــــــــــــ
[1] ( http://www.alukah.net/articles/1/4948.aspx#_ftnref1) سنن ابن ماجه، الحديث ذو الرقم 224.
[2] ( http://www.alukah.net/articles/1/4948.aspx#_ftnref2) مسند الدارمي، الحديث ذو الرقم 342.
[3] ( http://www.alukah.net/articles/1/4948.aspx#_ftnref3) صحيح البخاري، الحديث ذو الرقم 73.
¥