وقد ترجم ذلك القاضي عبد الجبار بقوله: (القبيح هو ما يقع على وجه يقتضي في فاعله قبل أن يفعله أنه ليس له فِعْلُه إذا علم حاله، وعند فعله يستحق الذم إذا لم يكن يمنع، والحسن ما يوجد مختصاً لغرض وتنتفي وجوه القبح عنه ومن حقه إذا علمه القادر عليه أن يقع كذلك أن يكون له فعله، ولا يستحق الذم إذا فعله) (73).
وسار على هذا المنوال أبو الحسين البصري حين قال: (أما الحَسَنُ فهو فِعْلُُ إذا فعله القادر عليه لم يستحق الذم على وجه، … وأما القبيح فهو فِعلُُله تأثير في استحقاق الذم) (74).
السمة الثالثة:
(تقديم معرفة العقل على دلالة النقل)
فالنقل عندهم محل الاعتبار إذا جاء موافقاً لحجج العقول، فإنْ جاء مخالفاً لها وجب تكييفه بما يتفق مع دلالة العقل إن أمكن ذلك، وإلا وجب ردّه أو تأويله.
وبرُهان ذلك كله ما دلت عليه أقوالهم الصريحة بهذا الخصوص، فقد قال منظَر مذهبهم القاضي عبد الجبار في نصوص السنة المخالفة لقضايا العقول عندهم: (وإن كان مما طريقة الاعتقادات يُنْظَر: فإنْ كان موافقاً لحجج العقول قُبِل واعتُقِد موجبه، لا لمكانه بل للحجة العقلية، وإن لم يكن موافقاً لها فإنَّ الواجب أن يُرَدَّ ويحكم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقله، وإنْ قاله فإنما قاله على طريق الحكاية عن غيره، هذا إذا لم يحتمل التأويل إلا بتعسُّف، فأما إذا احتمله فالواجب أن يُتَأوَّل) (75).
المطلب الثاني: دراسة موقف المعتزلة من العقل
من خلال استعراض أهم السمات التي دلت على تقديس العقل عند المعتزلة فإنَّ طبيعة الدراسة لتلك السمات التي حدَّدت بوضوح موقف أهل الاعتزال من العقل بوصفه حجة لها الأولوية الكبرى في مقام الاستدلال تقودنا إلى نَظْرةٍ تقويمية لكل سِمَةٍ على حدة لبيان ما لها وما عليها حسب ميزان الحق والإنصاف ودون حَيْفٍ أو إجحاف، وذلك وفق ما يلي:
أولاً: أن السمة الأولى التي مقتضاها: " قَصْرُ العلم بأصول التقبيح والتحسين على العقل فقط " اشتملت في تصوري على ما يمكن قبوله والتسليم به، وعلى مالا يمكن قبوله والتسليم به.
أ) فأما ما يمكن قبوله والتسليم به فهو دعواهم أن " العقل كاشف عن الحُسْن والقُبْح في الأشياء " فهذه دعوى صحيحة لا ينكرها إلا مكابر، لأن الله تبارك وتعالى أودع في غرائز النفوس استحسان الحَسَن واستقباح القبيح، فالناس مفطورون على ذلك جميعهم، وهذا ما ترجمه العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى بقوله: (فإن الله سبحانه فطر عباده على استحسان الصدق والعدل والعفّة والإحسان ومقابلة النعم بالشكر، وفطرهم على استقباح أضدادها، ونِسْبَةُ هذا إلى فطرهم وعقولهم كنسبة الحلو والحامض إلى أذواقهم، وكنسبة رائحة المِسك ورائحة النَّتن إلى مشامَّهم، وكنسبة الصوت اللذيذ وضده إلى أسماعهم، وكذلك كل ما يدركونه بمشاعرهم الظاهرة والباطنة، فيفرَقون بين طيبَه وخبيثه، ونافعه وضاره) (76).
ب) وأما مالا يمكن قبوله وتسليمه فهو دعواهم " أنَّ ذلك الإدراك للحُسْن والقُبْح لا يُعْلَمُ إلا من جهة العقل فقط "، وذلك لأن العقل مهما بلغ من الكمال والدقة والإتقان في الكشف عن حقائق الأمور وإدراك طبائعها فإنه قاصر عن الإحاطة بما يحقق مصلحة النفس البشرية في العاجلة والآجلة، والإحاطة بذلك كله إنما هو شأن العليم الخبير الذي وسع علمه كل شيء كما قال سبحانه: (وسع كل شيء علماً) (77).
ومما يدل على قصور إدراك العقل للحُسْن والقُبْح أنَّ الشارع قد ورد باستقباح ما كانت عقول العرب تستحسنه في الجاهلية وطرفاً من الإسلام وهو (شُرْب الخمر)، إذ كانت الخمرة عندهم معدودةً من الطيبات، بل إنها في عرفهم من ألذ الطيبات على الإطلاق فكانوا يتغنون بها في أشعارهم ويتسامرون بها في مجالسهم، فنبَّه الشارع الحكيم العقلاء إلى أنها قبيحة نظراً لما تفضي إليه مِنْ أضرار بالغة تتصادم في حقيقتها مع مصالح الدين والدنيا، وهذا ما أكَّده الحق تبارك وتعالى بقوله: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون) (78).
¥