الوجه الأول: أنهما متفقان على أن العلوم التجريبية محلُُ لتفاوت العقول فيها، إذ أن تلك العلوم خاضعة في قلتها وكثرتها للتجارب التي يخوض الناس غمارها قلةً وكثرةً، أو أنها خاضعة للبحث والنظر، والبحث والنظر مما يختلف باختلاف المدارك والقدرات.
الوجه الثاني: أن ما اختلفا فيه من كون العقل الغريزي قابلاً للتفاوت وعدمه لا تعارض فيه، إذ يمكن تخريجه عن طريق الجمع بحمل القول بعدم التفاوت على العلوم الضرورية لاستواء جميع العقلاء في إدراكها، وحمل القول بالتفاوت على العلوم النظرية التي يختلف فيها الناس بحسب قلة وكثرة تجاربهم، وبحسب اختلافهم في الاستعداد الذهني. وبهذا يؤول خلاف الفريقين في هذه المسألة إلى خلاف لفظي لا تنهض به ثمرة عملية.
المبحث الرابع: سبب الخلاف في تحكيم العقل
تصدَّى لبيان هذا السبب الشيخ محمد الخضري في أصوله حيث قرَّر أن هذا الخلاف يعود إلى المعَّرف لأحكام الله تبارك وتعالى، فمن رأى أن المعرف لها إنماهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام خاصة ذهب إلى أنه لا سبيل إلى درك حكم الله تعالى بالعقل قبل البعثة، ومن رأى أن العقل يصلح أن يكون معَّرفاً ذهب إلى أن العقل يمكنه أن يستقل بدرك حكم الله تعالى في الفعل قبل البعثة بناء على ما يدركه من حُسن فيه أو قُبح.
ثم قال رحمه الله تعالى: (والرأي الأول إما أنه مبني على أنه ليس في الأفعال صفات حُسن وقُبح ذاتية بسببها يطلب الله فعلها أو تركها وإنما هو يطلب فعل ما يشاء فيكون حَسَناً، ويطلب الكف عما شاء فيكون قَبيحاً، فلا سبيل للعقل للعلم بحُسن فعلٍ أو قُبحه إلا متى علم بطلب الله لفعله على لسان رسله أو الكف عنه. وإما مبني على أن الأفعال فيها صفة حُسن أو قُبح ذاتية ولكن لا يلزم من اتصافها بذلك أن يكون حكم الله وفق ما أدركه العقل من ذلك، فلا تكليف قبل ورود الشرع فالنتيجة واحدة وهي نَفْيُ التكليف قبل ورود الشرع وإن اختلفت العلة.
والرأي الثاني مبني على اتصاف الأفعال بالحُسن والقُبح اتصافاً ذاتياً، وأن العقل يمكنه الاستقلال بفهم ذلك قبل ورود الشرائع، وأنه يلزم أن تكون أحكام الله على وفق ما اتصفت به الأفعال من ذلك) (71).
وهذا ما نحى إليه المعتزلة حين قَرَّروا أن النقل إذا جاء مخالفاً للعقل فإما أن يُرَدَّ أو يُؤَوَّل، كما سيتضح في مبحث بيان موقفهم من العقل.
المبحث الخامس: العقل عند المعتزلة
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: استعراض موقفهم من العقل
يُعَدُّ أصوليو المعتزلة من أكثر علماء أصول الفقه انحيازاً للعقل، حيث أحاطوه بهالة كبيرة من القداسة والتبجيل، لدرجة أنه ما ذُكر العقل إلا واتجهت الأنظار إليهم وكأنه أصبح عَلَماً لهم أو حِكْراً عليهم.
ومن أبرز السمات التي تدل على انحياز المعتزلة للعقل ما يلي:
السمة الأولى:
(قَصْرُ العلم بأصول المقبَحات والمحسنَات على العقل فقط):
فعندهم أن العقل هو الكاشف الوحيد عن كون الشيء حَسَناً أو قَبيحاً، حتى لو تعطَّل العقل عن إدراك ذلك لسُدَّ الطريق أمام التمييز بين الحَسَن والقبيح، وهذا ما ترجمه القاضي عبد الجبار بقوله: (اعلم أن الطريق إلى معرفة أحكام هذه الأفعال من وجوب وقُبْح وغيرهما هو كالطريق إلى معرفة غير ذلك، ولا يخلو: إما أن يكون ضرورياً، أو مكتسباً. والأصل فيه أن أحكام هذه الأفعال لابد من أن تكون معلومة على طريق الجملة ضرورة، وهو الموضع الذي يقول: إن العلم بأصول المقبحات والواجبات والمحسنات ضروري، وهو من جملة كمال العقل، ولو لم يكن ذلك معلوماً بالعقل لصار غير معلوم أبداً، لأن النظر والاستدلال لا يتأتَّى إلا ممن هو كامل العقل) (72).
السمة الثانية:
(تأهيل العقل لتشريع الثواب والعقاب):
فقد قررَّ المعتزلة وجوب الاستجابة لداعي العقل فيما يمليه على صاحبه دون مخالفة أو عصيان، فإذا كَشَفَْ عن حُسْن الحَسَن وجب فعْلُه، فمن فَعَلَهُ استحق الثواب، ومن لم يفعله وهو قادر على فعله استحق العقاب، وإذا كشف عن قُبْح القبيح وجب تَركْه، فمن تركه أُثيب، ومن أقدم على فعله عوقب.
¥