وأما حجة العقل عندهم فليست تشريعاً بما لم يأذن به الله تبارك وتعالى، بل هي طريق لإثبات صِدْق المخبر في خبره حتى يحصل اليقين في القلب باتباعه والانصياع إليه فيما أخبر به، وهذا ما دل عليه قول ابن حزم رحمه الله تعالى: (الخبر لا يُعلم صحته بنفسه، ولا يتميز حقه من كذبه، وواجبه من غير واجبه إلا بدليل من غيره، فقد صح أنَّ المرجوع إليه حجج العقول وموجباتها) (107).
ومِنْ هذا يُعلم أنَّ الفارق عند هؤلاء بين القياس وحجة العقل: أنَّ القياس تَشْريع من غير إذْنٍ إلهي، فهو بذلك محادَّة لله تبارك وتعالى ومضادَّة لرسوله صلى الله عليه وسلم.
وأما حجة العقل فليست كذلك، بل هي مساندة للشرع ومؤَّيدة له. ونحن وإن سلَّمنا لهم إقرارهم بالحجة العقلية - فلا نسلَم لهم بحال إنكارهم لحجية القياس، إذ القياس مما أذن الله تبارك وتعالى فيه وأذن فيه رسوله صلى الله عليه وسلم ولو لم يكن كذلك لما أجمع الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم والتابعون لهم بإحسان رحمهم الله تعالى على العمل به دون منازع. قال الباجي رحمه الله تعالى (أجمع الصحابة والتابعون ومن بعدهم من الفقهاء والمتكلمين وأهل القدوة على جواز التعبد بالقياس، وأنه قد ورد التعبد بالصحيح منه) (108).
وقال الرازي رحمه الله تعالى: (والذي نذهب إليه وهو قول الجمهور من علماء الصحابة والتابعين أن القياس حجة في الشرع) (109).
وكما أن القياس محل العمل والاعتبار عند الصحابة والتابعين فكذلك هو عند جمهور الأصوليين (110).
المبحث الحادي عشر: خلاصة الدراسة لموقف الأصوليين من العقل
مما سبق دراسته من موقف الأصوليين من العقل حسب الطوائف التي ينتمون إليها برزت لنا حقيقتان:
الحقيقة الأولى:
أن المعتزلة، والأشاعرة، والظاهرية، والشيعة، والسلف الصالح، متفقون جميعاً على أن العقل حجة في إدراك المدركات العقلية كحُسْن الحَسَن، وقُبْح القبيح، واستحالة الجمع بين الضدين ونحو ذلك.
ولا يعكّر هذا الاتفاق إنكار الأشاعرة إدراك العقل للحُسْن والقُبح، فإنهم - على فرض التسليم بصحة هذا التوجيه - أرادوا بهذا الإدراك (الثواب والعقاب) فقط وليس مطلق الإدراك، وهذا ما أفصح عنه الفخر الرازي رحمه الله تعالى بقوله: (الحًسْن والقُبح قد يُعْنىَ بهما كون الشيء ملائماً للطبع أو منافراً، وبهذا التفسير لا نزاع في كونهما عقليين، وقد يُراد بهما كون الشيء صفة كمال أو صفة نقص، كقولنا: العلم حَسنَ والجهل قبيح، ولا نزاع أيضاً في كونهما عقليين بهذا التفسير، وإنما النزاع في كون الفعل مُتَعَلَّق الذم عاجلاً وعقابه آجلاً) (111).
الحقيقة الثانية:
انفرد المعتزلة والشيعة عن الأشاعرة والظاهرية وسلف الأمة الصالح بقولهم: " إن العقل يرتَّب الثواب والعقاب على الحَسَن والقبيح".
وهذا الانفراد جعلهم ينحرفون بالعقل عن مساره الصحيح الذي يجب أن يوضع فيه، ونشأ عن ذلك شطحات فكرية كبيرة صادمت العقيدة وخالفت الشريعة، حتى أوجد ذلك نَفْرةً في القلوب من منهج المعتزلة من جهة، ومن منهج الشيعة من جهة أخرى.
• • •
الخاتمة
بعد حَمْد الله تبارك وتعالى في البدء والختام فإنَّ أهم نتائج هذا البحث ما يلي:
1 - العقل في اللغة يُطلق على معانٍ متعددة من أهمها: الحِجْر، الجَمْع، الحَبْس، التثبت في الأمور، التميز، الفَهْم المَسْك، الملجأ.
2 - العقل في الاصطلاح تباينت فيه عبارات الأصوليين، ولعلَّ أرجح تعريفات العقل عندهم هو تعريف السرخسي رحمه الله تعالى حيث قال: (العقل نور في الصدر به يبصر القلب عند النظر في الحجج).
3 - المناسبة قوية جداً بين الحقيقة اللغوية والحقيقة الاصطلاحية للعقل.
4 - اختلف الأصوليون في محل العقل على ثلاثة أقوال أرجحها أن محله القلب ويفيض نوره إلى الدماغ لدلالة ظواهر الآيات القرآنية الكريمة على ذلك.
5 - للخلاف في محل العقل ثمرة عملية تظهر في بعض مسائل الفقه.
6 - اختلف الأصوليون في تفاوت العقل على قولين، والراجح منهما القول بتفاوت العقول لدلالة الشرع على ذلك واختلاف الناس في الإدراكات العقلية، إذ بعضهم أكثر إدراكاً من بعض كما هو ملموس ومشاهد.
7 - الخلاف في سبب تحكيم العقل يعود إلى الاختلاف في المعرَّف لأحكام الله تبارك وتعالى.
¥