تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (ولا يوجد نص يخالف قياسياً صحيحاً، كما لا يوجد معقول صريح يخالف المنقول الصحيح) (101).

ولذلك فقد ألف رحمه الله تعالى كتاباً أسماه: " درء تعارض العقل والنقل " (102).

المطلب الثاني: دراسة موقف السلف الصالح من العقل

إن العقل عند السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم موظَّف للعمل بالنصوص الشرعية، ومُسْتَثْمَر في فهم مقاصدها ومعرفة دلالاتها، وهذا من شأنه أن يحرر العقل من أسر التقليد وغل العادات حتى يكون في مستوى المكانة التي وضعه فيها الإسلام الحنيف.

ومنهج السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم في تعاملهم مع العقل منهج يقوم على الوسطية والاعتدال، فقد عرفوا ما أعطاه الله تبارك وتعالى للعقل من مساحة يتحرك خلالها ليؤدي وظيفته التي أرادها الله عز وجل منه وهي فَهْمُ مراده سبحانه من النصوص الشرعية حتى يوجه صاحبه للعمل بها دونما زيغ أو شطط.

وجعلوا ذلك العقل في الوقت نفسه تابعاً للنقل لا يعارضه في حكم، ولا يستقل عنه بتصور، بل يستنير بنوره ويهتدي بهداه.

ولو أن من شط بعقله سلك هذا المنهج الوسطي المعتدل لسعد بهذا العقل ولما شقي به أبداً، فإن كل من قاده عقله إلى طريق الشقاء إنما كان ذلك نتيجة الغلو في تعظيم العقل ووضعه في المقام الذي لا يناسب حجمه، أو نتيجة تعطيل ذلك العقل دون استثمار لطاقاته واعتبار لقدراته اتكالاً على تقليد أعمى، أو وقوفاً عند عادة من العادات حُتّم عليه اتباعها وحُرَّم عليه اجتنابها.

المبحث العاشر: الفارق بين القياس وحجة العقل

يلاحظ أن المنكرين لحجية القياس كالظاهرية (103) والشيعة (104) هم من القائلين بإثبات حجة العقل، فهل هذا يعني أنَّ هناك فارقاً بين القياس والعقل؟

وإذا لم يكن هناك فارق بينهما فهل يعني هذا أنَّ هناك تناقضاً لديهم في الموقف واضطراباً في الرؤية؟

الواقع أن الشيعة قد أحسوا بتناقض موقفهم واضطراب رؤيتهم فيما قرروا إنكاره وإثباته، فحاولوا جاهدين التوفيق بين إنكارهم حجية القياس حين صرَّحوا بأنَّ (دين الله لا يُصاب بالعقول)، وإقرارهم بحجة العقل فقالوا: إنَّ المراد من عدم إصابة دين الله تعالى بالعقول هو أنّ الأحكام ومداركها لا تُصاب بالعقول على وجه الاستقلال، بل إنها تصاب من طريق الشارع، وفي ذلك يقول المظفَّر الشيعي: (وأما ما ورد عن آل البيت عليهم السلام من نحو قولهم: " إن دين الله لا يصاب بالعقول " فقد ورد في قباله مثل قولهم: " إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة عليهم السلام، وأما الباطنة فالعقول "، والحل لهذا التعارض الظاهري بين الطائفتين هو: " أن المقصود من الطائفة الأولى بيان عدم استقلال العقل في إدراك الأحكام ومداركها في قبال الاعتماد على القياس والاستحسان لأنها واردة في هذا المقام، أي: أنَّ الأحكام ومدارك الأحكام لا تصاب بالعقول بالاستقلال، وهو حق كما شرحناه سابقاً ومن المعلوم أنَّ مقصود من يعتمد على الاستحسان في بعض صوره هو دعوى أنّ للعقل أنّ يدرك الأحكام مستقلاً ويدرك ملاكاتها، ومقصود مَنْ يعتمد على القياس هو دعوى أنَّ للعقل أن يدرك ملاكات الأحكام في المقيس عليه لاستنتاج الحكم في المقيس، وهذا معنى الاجتهاد بالرأي، وقد سبق أنَّ هذه الإدراكات ليست من وظيفة العقل النظري ولا العقل العملي لأن هذه أمور لا تصاب إلا من طريق السماع من مبلَغ لأحكام) (105).

وأما وجه إنكار الظاهرية للقياس وإقرارهم حجة العقل فهو: أنَّ القياس عندهم تَشرْيع في الدين بما لم يأذن به الله تبارك وتعالى، وهذا باطل لا يصح، وفي ذلك يقول ابن حزم رحمه الله تعالى: (فقد كان الدين والإسلام لا تحريم فيه ولا إيجاب، ثم أنزل الله تعالى الشرائع، فما أَمَر به فهو واجب، وما نهى عنه فهو حرام، وما لم يأمر به ولا نهى عنه فهو مباح مطلق حلال كما كان، هذا أَمْر معروف ضرورة بفطرة العقول مِنْ كل أحد، ففي ماذا يُحتاج إلى القياس أو إلى الرأي؟ أليس مَنْ أقرَّ بما ذكرنا ثم أوجب مالا نَصَّ بإيجابه، أو حرمَّ مالا نَصَّ بالنهي عنه قد شرع في الدين ما لم يأذن به الله تعالى؟ وقال مالا يحل القول به؟ وهذا بُرهان لائح واضح وكافٍ لا مُعْتَرَض فيه) (106).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير