• ومن ذلك الاختِزال الذي اخترعه علماءُ الحديث، وأخذَه عنهم علماء العلوم الأخرى كعلماء الرضيات والكيمياء والفيزياء، وهو استخدامُ حرف أو حرفين من الكلمة الأصل للدَّلالة على الكلمة المختَزَلَة، ومن ذلك الرُّموز الدالَّة على المواد التي نُريد الحديث عنها
• ومن ذلك استعمالُ كلمةٍ مهجورةِ الاستعمال وهي موجودةٌ في كتب اللغة، استعمالُها في معنى جديد، وهذه الطريقة أخذ بها المجمع العلميُّ العربي في دمشق كما حدثني بذلك أستاذنا العلاَّمة اللغوي (وهو من أعضاء المجمع المؤسِّسين) عز الدين علم الدين التَّنوخي رحمه الله (ت 1386هـ = 1966م)، وضرب لذلك مثلاً كلمة (الإِضْبارَة) التي اقترحها لتكون محلَّ (الدُّوسيه) وسادت هذه الكلمةُ على صعوبة نطقها.
و إلا فكيف تضيقُ العربية عن استيعاب مفردات العصر اليومَ وهي التي استوعبت ما هو أعظمُ من ذلك وأكبر! حين خرجت من ضيق الصحراء إلى سعة المدائن، ومن حدود البداوة إلى انطلاق الحضارة، فاستوعبت نتاجَ قرون متطاولة من الحضارة والعلم والمعرفة، وجعلت أفئدةَ الناس تهوي إليها، فصارت المقدَّمةَ دون غيرها في كلِّ علم وفن، وغدا إتقانها وحبها والتمسُّح بها شرفاً دونه كل شرف،
كيف تَعجِزُ العربية عن استيعاب مصطلحات العلم والتقنية اليوم؟ وكيف توصَف بالضيق وهي التي وَسِعَت كلمات الله سبحانه:
وسعتُ كتابَ اللهِ لفظاً وغايةً وما ضِقتُ عن آيٍ به وعِظاتِ
فكيفَ أَضيقُ اليومَ عن وَصفِ آلةٍ وتَنسيقِ أسماءٍ لمختَرَعاتِ
- ولم يسجل التاريخ قط أن أمة حققت التنمية والتقدم الحضاري بلغة غيرها من الأمم، ولنا في التجربة العربية الإسلامية القديمة واليابانية الحديثة خير دليل على ذلك. فالعرب المسلمون ما بنوا حضارتهم إلا بعد أن نقلوا ما خلفته الحضارات البائدة من علوم إلى العربية، ففهموا تلك العلوم بفكرهم وتمثلوها بلغتهم ووعوها بواعيتهم ليؤسسوا عليها صرح خير حضارة أخرجت للناس. واليابانيون اليوم كذلك فعلوا فهم يتلقّون علومهم باليابانية وما يكاد كتاب علمي يخرج في الغرب إلا ويترجم إلى اليابانية قبل أن يبلغ انتشاره في لغته مداه.
- و لنورد مثالا واقعيا على ذلك فسورية تتميز بعدة قضايا, تهمّ اللغة العربية. فهي البلد العربي الوحيد الذي يعلّم العلوم الغربية في جامعاته بالعربية, منذ سنة1920, ولم يحدث فيه أي خلل, أو ضعف. كما أن علماءها يشتركون, في المؤتمرات العالمية, في الوطن العربي وخارجه.
- و نقول إن الذي ينتج من غلبة لغة على لغة وحلولها محلها أن تذوب شخصية الأمة صاحبة اللغة المغلوبة تدريجياً في الأمة الغالبة، وتصبح بعد أن كانت لها مقوماتها وخصائصها وهي على لغتها الأصلية، تصبح مندمجة في أمة أخرى، وقد فقدت ما كانت تحمله في ذاكرتها من الأفكار والمعتقدات وسائر المعاني المختلفة عما كانت تراها وتفهمها، وتراها بعد ذلك بمنظار فكر اللغة الأخرى الذي لابد أن يغاير فكر اللغة الأولى في كثير من المعاني والتصورات.
ويأتي بعد هذه النتيجة أيضاً أن تُقطع الأمة التي استبدلت لغتها عن تراثها وأصلها، فتنشأ أجيال هذه الأمة المقطوعة فاقدة الهوية، لا تراث ولا انتماء، وهذا مما ييسر احتواء هذه الأجيال وإذلالها والتحكم في توجيهها.
إن الجيوش العسكرية التي تتخذها الأمم لنشر سيطرتها وبسط سلطانها تسبقها جيوش لغوية، تحمل هذه الجيوش لغة الأمة الغازية وتبشر بأفكارها وتذيع مبادئها وترسم شخصيتها، ولقد كانت هذه الجيوش اللغوية عظيمة الأثر في بث فكرها والدعوة إليه بين القوم الذين وفدت إليهم، فقبل أن تجيء الجيوش العسكرية استطاعت جيوش اللغة الأجنبية أن تهيء لها أتباعاً وأنصاراً يحملون فكرها ويدافعون عنه ويدعون إليه فوق فخرهم بهذه اللغة وميلهم إلى أهلها.
ثم إن الحديث بلغة قوم يفضي إلى الميل إليهم والتعايش معهم -إن لم يكن هناك حصانة فكرية لمن يتحدث بها- ويقوى هذا الميل عندما تكون هذه اللغة لأمة أرقى وأقوى من لغة من يعيش معهم من أهل لغته. إن أصدق ما أدلل به على هذا الأمر ما كان من أمر الاستعمار الأوربي الحديث لكثير من أجزاء العالم وبخاصة العالم العربي، والذي سبق إليه بغزو جيوشه اللغوية في القرن السابع عشر والثامن عشر الميلاديين
¥