الجاحظ في بيانه للبيان اتخذ وضعا مغايرا لما سيكون عليه الأمر عند المتأخرين،فهو يرصد البيان من منظور السامع لا المتكلم، بل قد لا نجازف إن قلنا إن السامع عند الجاحظ أولى بالاعتبار من المتكلم .. فإن ما عند المتكلم معدوم أو ميت ولا يكتسب وجوده أو حياته إلا عند تمثل السامع لما سمع ...
بل وصل أبو عمرو إلى درجة تغييب المتكلم نفسه فلا تجد في تعريفه الثاني-الذي قاله على سبيل التنويع- إلا حضور السامع وهو يتلمس في الخطاب ما يسترشد به للوصول إلى المحصول الذي ألقاه إليه المتكلم ثم انصرف.!! قال:
(والبيان اسمٌ جامعٌ لكلِّ شيءٍ كشَفَ لك قِناعَ المعنى، وهتكَ الحِجَاب دونَ الضمير، حتّى يُفْضِيَ السّامعُ إلى حقيقته، ويَهجُم على محصولِهِ كائناً ما كان ذلك البيانُ،)
وقد نجد في الاعتبارات المذهبية ما يفسر صنيع الجاحظ وصنيع الجمهور .. فالجاحظ بحكم اعتزاليته يرى أن الكلام هو اللفظي ولا شيء قبله ومن ثم فالعلاقة الممكنة هي العلاقة البعدية بين اللفظ والسامع أما الأشاعرة فالكلام المتأصل عندهم هو الكلام النفسي،ومن ثم فالاهتمام ينصب على تلك الآليات التي تحول النفسي إلى اللفظي، وهذه الآليات مستقرها بطبيعة الحال في وعي واختيار المتكلم .. فإذا تم التحويل والصياغة اللفظية يكون الكلام قد تم ويصبح المستمع بدون فعالية .. أما الجاحظ فيرى أن اللفظ بعد وجوده يحتاج إلى معنى، وهذا المعنى يتشكل في وعي المتلقي،الذي به يوجد الكلام ويحيى!!
2 - تعريف الجمهور لا يخلو من مفارقة عند التأمل، فكلامهم عن البيان ومقصودهم الإبهام!
قال الطرودي التونسي شارحا حدهم:
(وقوله" مختلفة في وضوح الدلالة" وذلك كثبوت الجود لزيد فإنك تعبر عنه تارة بقولك" زيد سخي" وتارة "جبان الكلب" وتارة تقول" كثير الرماد "وتارة تقول" هزيل الفصيل" فإنها مختلفة في وضوح الدلالة على مضايفة زيد ... فدلالة الأول أوضح من الثاني ومن الثالث وذلك للاختلاف بحسب وضوح العلاقة بين المعنيين وتعددها ...
وكلما كانت المبالغة أخفى،كانت المبالغة في الغاية القصوى ما لم يبلغ حد التعمية والإلغاز ... )
فسلم الدلالة عندهم يمتد من الأوضح إلى الأخفى، والطبقة الدنيا ساذجة لا بلاغة فيها،وإنما تشع البلاغة تدريجيا عند الترقي في درجات الخفاء .. وهنا مكمن المفارقة فكأن علم "البيان" هو القدرة على "إخفاء" المعنى لا على إظهاره ...
ونسجل مرة أخرى تفوق التصور الجاحظي، فهو أسعد حظا بمعنى كلمة بيان وبموافقة مقصود الشرع ومرمى الناس .. فالبيان هو النقلة من البعيد إلى القريب ومن التجريدي إلى الحسي ومن الوحشي إلى المستأنس ومن المنكر إلى المعروف .... وهذا ما يريده الناس فعلا ويسعون إليه ويتفاضلون فيه .. فمن اقترح عبارة "واضحة" يعتبر أقل بلاغة ممن قدمها بطريقة "أوضح"، والأمر مختلف تماما عند الجمهور فالأخفى هو الأبلغ دائما بشرط عدم السقوط في التعمية.
3 - المتكلم البياني في تعريف الجمهور ينطلق من معنى نهائي فيبحث له عن لبوس لفظي ضمن دائرة الإختيار في حدود القدرة البيانية فيتوسل بالصور البيانية من تشبيه وكناية ومجاز ليلقي ظلالا من الخفاء والإبهام على أصل ذلك المعنى ..
وفهم المعنى من قبل المتلقي يمر بإجراءات ملخصها إزالة تلك الظلال واستخراج أصل المعنى من غموض المجاز أو إبهام الكناية ...
وهذا مآله إلى إفقار النص لفائدة غرور المتكلم: فليس ثمة تولد لدلالات جديدة أو تناسل لمعاني طرية بشراكة المتلقي،وإنما هي براعة المتكلم والتدليل على قدرته في أن يقول المعنى الواحد بطرق متعددة لإدهاش مخاطبه .. وصنيع البياني هنا شبيه بصنيع بلاغيي اليونان –السفسطائيين-الذين كانوا يرون أن البلاغة هي المهارة في قول الشيء وضده وإقناع المخاطب بالقضية ونقيضها معا ...
ـ[الحارث المصري]ــــــــ[28 - 10 - 07, 07:47 ص]ـ
قال السيوطي: ... وكذا قوله: ?وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ?
(بالإيمان) بهمزة تحت الألف
أعلم أنك نقلته من نسخة إلكترونية لم تسلم من الأخطاء، ولكن وجب التنبيه
ـ[أبو عبد المعز]ــــــــ[29 - 10 - 07, 04:08 م]ـ
اللمعة 14:
للتشبيه مكانة سامية في البلاغة العربية،تبوأها بقوة،فلا يدانيه أي وجه بلاغي آخر ...
¥