بل لا نبالغ إن قلنا إن التشبيه لوحده استأثر بشق علم البيان العربي، والوجوه البيانية الأخرى كلها شريكات في الشق المتبقي. .. ولك أن تحسب ذلك بكل يسر:
فأبواب البيان ثلاث:
تشبيه،ومجاز، وكناية.
فللتشبيه الثلث خالصا، ثم إن المجاز اللغوي ينقسم إلى مجاز علاقته المشابهة –وهي الاستعارة-ومجاز علاقته غير المشابهة-وهو المرسل-
ولا حاجة إلى التذكير بأن الاستعارة وإن استقلت باسم خاص فهي بنت التشبيه وامتداد له بل إن هناك منطقة اختلف فيها البيانيون أهي في حيز التشبيه أم في حيز الاستعارة وأعني بها ما يسمى بالتشبيه البليغ ... ولا حاجة أيضا إلى التذكير بما شاع على ألسنة المبتدئين في البلاغة من أن الاستعارة تشبيه حذف أحد طرفيه.
ثم نلحظ أن المشابهة –دون غيرها من المعاني-اعتبرت معيارا في التقسيم فأضحت الاستعارة بموجبه قسما قائما بذاته وقسيما للمجاز المرسل الذي يتضمن عشرات العلاقات ..
علاقة المشابهة فوق كل العلاقات إذن، ولولا ذلك لاستغنينا –منطقيا-عن باب الاستعارة فنقول مصنفين: هذا مجاز علاقته السببية، وهذا مجاز علاقته المحلية، وهذا مجاز علاقته المشابهة الخ ..
وقد قيل إن المجاز" المرسل" سمي كذلك لعدم تقيده بالمشابهة،فكأنه اعتبر فيه انفكاكه عن سلطان التشبيه،وكأنه كان من المفروض أن يخضع للتشبيه كل كلام!! و"كأنه" ... أليست هذه أداة تشبيه تلاحقنا حتى خارج مملكتها!.
هنا سؤالان،
الأول:
-هل لعلاقة المشابهة هذه جذور ميتافزيقية تميزها عن سائر العلاقات؟
كان أرسطو يرى أن الأدب بكل أنواعه يرجع إلى مبدأ المحاكاة، وما المحاكاة إلا مرادفة للتشبيه أو التشبه .. وقد كتب لهذه النظرية أن تكون عمدة علم الجمال في كثير من العصور.
وقبله كان أستاذه أفلاطون قد نسج فلسفة كاملة قائمة على هذه المحاكاة ذاتها .. فما من شيء في هذا العالم الفاني إلا ويحاكي أي يتشبه بتلك الكليات القابعة في عالم المثل ...
الثاني:
-هل لحكيمي يونان نفثة ما في البلاغة العربية أم أن التشبيه متجذر في الفطر والغرائز يفصح عن نفسه تلقائيا سواء أخلق اليونان أم لم يخلقوا؟
ـ[أبو عبد المعز]ــــــــ[02 - 11 - 07, 12:06 ص]ـ
اللمعة 15:
لقد شغل التشبيه -والاستعارة المبنية عليه- قسطا وافرا في مباحث البيان، فكان تفريع الأنواع والوجوه في المبحثين قد بلغ من التفصيل والتعدد ما لا تصل إليه مباحث البيان الأخرى كلها مجتمعة ...
هذا الحضور الكمي للتشبيه يوازيه حضور كيفي أيضا:
فالتشبيه الذي نجده حاضرا في أدنى سلم البيان نجده أيضا في أعلى سلمه ...
نعني بأدناه: التشبيه المفرد.
ونعني بأعلاه: التمثيل.
لا تعتقدن أن وصف التشبيه بالإفراد أوالتركيب يرجع إلى لفظي الطرفين -أي لفظ المشبه ولفظ المشبه به- بل يرجع إلى وجه الشبه ونهج العقل في مأخذه وانتزاعه .. فإن لاحظ العقل في وجه الشبه تعددا وتركيبا، أو انتزعه من متعدد ومركب، فالتشبيه تمثيلي حقا ولو كانت ألفاظ المشبه والمشبه به ووجه الشبه ألفاظا مفردة .. وإن لاحظ العقل في وجه الشبه جهة واحدة أو معنى مفردا فالتشبيه مفرد ولو كان اللفظ الدال على المشبه أو المشبه أو الوجه متعددا ...
هذا المعنى الذي نقرره هنا استفدناه من المناظرة الشهيرة بين السعد والسيد في مجلس تيمور بصدد قوله تعالى:
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
ونعتقد أن انتصار السعد التفتازاني لوجه التمثيلية أقرب للحق من انتصار السيد الجرجاني لوجه التبعية ..
ومن دلائل المنتصرين لمذهب السعد -وهذا محل شاهدنا-أن تعدد المأخذ لا يلزم عنه تعدد اللفظ وهو ما ينكره السيد الذي تمسك فيما يبدو بوجهة نظر منطقية أكثر منها بلاغية .. وقد نخصص لهذه المناظرة لمعة من اللمع.
ومما يدلك على أن التمثيل قمة بيانية مرموقة وروده بكثرة في البيان المعجز .. بخلاف ندرة التشبيه المفرد. بل إننا نرجح أن القرآن لم يستعمل التشبيه المفرد أبدا ونقصد بطبيعة الحال التشبيه الساذج لشيء أحمر بشيء أحمر لوجود الحمرة في الطرفين .. وما جاء في الوحي المعجز من تشبيه أفرد طرفاه فالمأخذ متعدد دائما فيكون التشبيه إفراديا في شكله تمثيليا في حقيقته ..
منه قوله:
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} الأعراف179
فليس التشبيه مفردا كما يعتقد خطأ أي تشبيه شيئ مفرد (الانس والجن) بشيء مفرد (الأنعام) بل هو تمثيلي،فالوجه منتزع من متعدد بلا شبهة، فقد شبه الثقلان،في حال تمتعهم بآلات المعرفة الحسية والعقلية وعدم انتفاعهم بها في الاهتداء، بالأنعام في حال كونها تتوفر ظاهرا على أعضاء السمع والبصر والقلب ولكنها عاجزة عن أن تترقى بها وتهتدي إلى ما فيه حسن العاقبة .. فثبت التمثيل في الآية باعتبار الانتزاع من متعدد.
ومنه قوله:
{طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} الصافات65
المشبه هو: شَجَرَةُ الزَّقُّومِ
المشبه به: رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ ..
فهو تشبيه مفرد ظاهرا .. لكن وجه الشبه متحرك وليس ثابتا فكسب التعددية من هذه الجهة ... تفصيله أن يقال:
شجرة الزقوم لم يقع عليها الحس ومن ثم يذهب التصور فيها شتى المذاهب .. وعندما أدخلت في التشبيه كان المتوقع أن يحصل غرض البيان فيقرب البعيد ويعرف المجهول لكن الآية اتخذت مسارا آخر: فقد شبهت الشجرة الجهنمية برؤوس الشياطين، وهذه الرؤوس ليس مما يقع عليها الحس، وخيالات الناس تذهب في تصورها كل مذهب، فتكون الآية قد فتحت للتصور والتخييل ثلاث مسافات:
مسافة من جهة شجرة الزقوم
ومسافة من جهة رؤوس الشياطين ...
ومسافة من جهة التطابق بين الطرفين.
فهل كل هذا تشبيه مفرد!
¥