تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ـ[محمد المبارك]ــــــــ[18 - 11 - 07, 06:18 ص]ـ

جمال المطلع وبراعة الاستهلال

فى السور القرآنية

عّرف البلاغيون براعة الاستهلال بأنها استهلال الكلام وابتداؤه بما يناسب المقصود. ومثلوا لها بأمثلة كثيرة منها قول أشجع السلمى:

نشرت عليه جمالها الأيام

\

قصر عليه تحية وسلام

وقول أحمد شوقى فى ذكرى ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم:

وفم الزمان تبسم وثناء

\

ولد الهدى فالكائنات ضياء

وأخذ البلاغيون على كثير من الشعراء عدم تخيرهم فى مطالع قصائدهم الألفاظ المناسبة للمقامات، ومثلوا لذلك بأمثلة كثيرة منها:

- غضب هشام بن عبد الملك من ذى الرمة حين استهل مديحه له بقوله:

«ما بال عينيك منها الدمع ينكسب؟! «

فقال له هشام: بل عينك أنت! ([35])

- وأخذ الداعى العلوى على ابن مقاتل الضرير بدأه يوم المهرجان بقوله:

غرة الداعى ويوم المهرجان

\

لا تقل بشرى، ولكن بشريان

فتشاءم الداعى العلوى، وقال له: (يا أعمى تبدأ بهذا يوم المهرجان .. يوم الفرح والسرور)! وذلك حين بدأ ابن مقاتل قصيدته بالنهى عن قول بشرى. وقد قال له الداعى العلوى: هلاّ قلت: إن تقل بشرى فعندى بشريان ([36]).

هذا هو حال البشر حين يتكلمون .. يوفق فريق فى جمال المطلع وحسن الابتداء، ويخفق فريق آخر.

أما القرآن الكريم كلام الله الذى أتقن كل شئ، فكله جمال تعلو فنيته على كل فن، وللقرآن بلاغة بلغت حد الكمال

بأسلوبه؛ إذ نظمه متفرد

\

تفرّد فى عصر البيان بيانه

محاسنه لم تنحصر؛ فتعدَّد

\

وفى نظمه بعد الغرابة معجز

بلا سقطة منه لمن يتفقد

\

وجاء سليما نظمه من معايب

ومن معالم الجمال الفائق والإعجاز العالى: ما نراه فى كل سورة من سور القرآن الكريم من مطلع جميل، وابتداء حسن، واستهلال بارع.

وها نحن أولاء نقتطف لك الأمثلة:

وأول مثال نسوقه بين يديك: مطلع سورة الرحمن، التى وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها (عروس القرآن)، والتى لم تتسمّ سورة من سور القرآن باسم من أسمائه تعالى غيرها، كما لم يتصدر سورة من سور القرآن اسم من أسمائه تعالى غير هذه السورة.

قال الله تعالى: (الرَّحْمَنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الْإِنسَانَ* عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) هذا هو السطر الأول من السورة فى المصحف الشريف .. ترى فيه: إضافة السورة الكريمة إلى اسمه الكريم سبحانه وتعالى: (الرَّحْمَنُ)، واستفتاحها البارع به، فجاء استهلال السورة فى غاية الروعة والجمال، ومناسباً تمام المناسبة لما سردته السورة من نعم الله وآلائه.

إن استفتاح السورة بلفظ (الرَّحْمَنُ) الذى لا يسمى به أحد سواه عز وجل «هو إشارة إلى ما فى هذه السورة المباركة من تجليات الرحمن بالرحمة على عباده .. فهى سورة الرحمة العامة الشاملة، فكل آية من آياتها رحمة راحمة، ونعمة سابغة، يَرِدُ الأنام مواردها فتلقاهم رحمة الرحمن الرحيم بالفضل والإحسان، وباللطف والعطف، حتى تلك الآيات التى تحمل العذاب إلى الكافرين والضالين، فإنهم - مع هذا العذاب الذى هم فيه - واقعون تحت رحمة الله، ولولا هذه الرحمة لتضاعف لهم العذاب الواقع بهم أضعافاً كثيرة، لا تنتهى عند حد. إن هذا العذاب الذى هم فيه هو رحمة واسعة، ونعمة سابغة بالإضافة إلى ما كانوا يستحقون من عذاب، وإلى ما فى قدرة الله من عذاب يتعذب به هذا العذاب نفسه!» ([37]).

لم يختر الحق سبحانه من أسمائه الحسنى سوى (الرَّحْمَنُ) ليبدأ به هذه السورة التى هى معرض متكامل لنعم الله، ولقدرة الله، ولرحمة الله، ولجلال الله وعظمته. ناهيك عن أن لفظة (الرَّحْمَنُ) تتناسق فى الإيقاع مع فواصل السورة، ومع قوله فيها إحدى وثلاثين مرة: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ). «وكما بدأت السورة بهذا الاسم الجليل الفياض بالرحمة، ختمت بهذا الوصف الكريم للرحمن جل شأنه الذى كسا الوجود كله بأثواب ضافية من أثواب رحمته، والذى كان تجلى اسمه الكريم (الرَّحْمَنُ) خيراً وبركة على هذا الوجود، الذى نطق لسان كل موجود فيه بالحمد والتبريك للرحمن الرحيم، فانتظم من ذلك هذا النشيد العلوى الذى ختمت به السورة الكريمة: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» ([38]).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير