تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

«خذ شاهداً آخر من افتتاح سورة الملك بقوله تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

لقد افتتح الله السورة بهذه التسبيحة الرائعة (تَبَارَكَ) فأفادت تنزيهه جل شأنه وتقديسه، «وأوحت بزيادة بركة الله ومضاعفتها، وتمجيد هذه البركة الرابية الفائضة، وذكر الملك بجوارها يوحى بفيض هذه البركة على هذا الملك، وتمجيدها فى الكون بعد تمجيدها فى جناب الذات الإلهية. وهى ترنيمة تتجاوب بها أرجاء الوجود، ويعمر بها قلب كل موجود، وهى تنطلق من النطق الإلهى فى كتابه الكريم، من الكتاب المكنون إلى الكون المعلوم» ([39]).

إن هذا المطلع الجامع الموحى هو مفتاح السورة كلها؛ فإن حقيقة الملك، وحقيقة القدرة تتفرع سائر الصور التى عرضتها السورة، وسائر الحركات المغيبة والظاهرة التى نبهت القلوب إليها. فمن الملك ومن القدرة كان خلق الموت والحياة، وكان الابتلاء بهما. ومن الملك والقدرة كان خلق السموات السبع الطباق .. لا خلل فيها ولا نقص ولا اضطراب. ومن الملك والقدرة كان تزيين السماء الدنيا بالمصابيح وجعلها رجوما للشياطين. ومن الملك والقدرة كان إعداد جهنم بوصفها وهيئتها وخزنتها. ومن الملك والقدرة كان العلم بالسر والجهر، وكان جعل الأرض ذلولا للبشر، وكان الخسف والحاصب والنكير على المكذبين الأولين. ومن الملك والقدرة كان إمساك الطير فى السماء، وكان القهر والاستعلاء، وكان الرزق كما يشاء، وكان الإنشاء وهبة السمع والأبصار والأفئدة، وكان الذرء فى الأرض والحشر، وكان الاختصاص بعلم الآخرة، وكان عذاب الكافرين، وكان الماء الذى به تقوم الحياة، وكان الذهاب به عندما يريد جل شأنه. فكل حقائق السورة وموضوعاتها، وكل صورها وإيماءاتها مستمدة من إيماء ذلك المطلع البارع ومدلوله الشامل الكبير: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، وحقائق السورة وإيماءاتها تتوالى فى السياق وتتدفق بلا توقف، مفسرة المدلول المجمل الشامل لذلك المطلع البديع ([40]).

«وخذ شاهداً ثالثاً من مطلع سورة الحاقة، وهى سورة تقص لنا مصارع قوم نوح وعاد وثمود وفرعون والمؤتفكات إخوان لوط، وتصور - من بعد ذلك - مشاهد النهاية المروعة لهذا الكون، وانقسام الناس يوم البعث إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال. وتعرض لك السورة موازنة دقيقة بين هؤلاء وهؤلاء، فمن نجا من هول الحشر انطلق والدنيا لا تسعه من الفرحة يدعو الخلائق كلها لتقرأ كتابه، ومن هلك وقف والحسرة تئن فى كلماته ونبراته وإيقاعاته، وصرخ بأعلى صوته (يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ)، وبينما هو كذلك تتسابق ملائكة العذاب إلى تنفيذ الأمر الرهيب (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ … إلخ) وفى ختام السورة تبدو تلك الصورة المفزعة من التهديد الشديد بأخذ اليمين وقطع الوتين لمن تقول على الله بعض الأقاويل ([41]).

هذه المشاهد القوية الرهيبة فى السورة لا يناسبها إلا استهلال فى قوتها، فجاء مطلع السورة هكذا (الْحَاقَّةُ* مَا الْحَاقَّةُ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ*؟) و «الحاقة بلفظها وجرسها ومعناها تلقى فى الحس معنى الجد والصرامة والحق والاستقرار. وإيقاع اللفظ بذاته أشبه شئ برفع الثقل طويلاً، ثم استقراره استقراراً مكيناً. رفعه: فى مدة الحاء بالألف. وجده: فى تشديد القاف بعدها. واستقراره: بالانتهاء بالتاء المربوطة التى تنطق - عند الوقف - هاء ساكنة».

ولفظ (الْحَاقَّةُ) فى دلالته اللغوية هو أنسب لفظ يناسب إتجاه السورة وموضوعها، فالحاقة هى التى تحق فتقع، أو تحق فتنزل بحكمها على الناس، أو تحق فيكون فيها الحق، وهكذا يكون الأمر يوم القيامة.

وبراعة استهلال السورة بلفظ (الْحَاقَّةُ) لا يقف عند حد الدلالة اللغوية للفظة وإيقاعها وإيماءاتها، وإنما تتجلى براعة الاستهلال أيضاً فى إلقاء (الْحَاقَّة) كلمة مفردة، لا خبر لها فى ظاهر اللفظ، ثم تتبع باستفهام حافل بالاستهوال والاستعظام لماهية هذا الحدث العظيم: (مَا الْحَاقَّةُ) ثم يزداد هذا الاستهوال والاستعظام بالتجهيل، وإخراج المسألة عن حدود الإدراك والعلم: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ؟) .. ثم يسكت ولا يجيب على هذا السؤال، ويدع قارئ المطلع وسامعه واقفاً أمام هذا الأمر المستهول المستعظم، الذى لا يدريه، ولا

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير