ـ[توبة]ــــــــ[15 - 12 - 07, 01:08 م]ـ
ولو أُلقيت قصيدتان على مسمع صيني لا يعرف العربية، فإن أذنه ستميز الشعر الحر والشعر العمودي .. وسيحكم للثاني قطعا .. فلا داعي للمزايدات المذهبية ...
صدقتم .. و من الملاحظ على أكثرهم، هو التكلف في مجازية الألفاظ و الإغراب في المعاني،
عودة إلى الشعر الجاهلي،و قبس من "جماليات عكاظ"
كان النابغة الذبياني تضرب له قبة من أدم بسوق عكاظ، يجتمع فيها الشعراء،
فدخل عليه حسان بن ثابت والخنساء والأعشى.
فأنشدت الخنساء (رضي الله عنها) قولها:
قذى بعينك أم بالعين عوّار **** أم ذرّفت إذ خلت من أهلها الدار
حتى انتهت إلى قولها:
وإن صخراً لتأتم الهداة به **** كأنه علم في رأسه نار
وإن صخراً لمولانا وسيدنا **** وإن صخراً إذا نشتوا لنحّار
فأعجب النابغة بشعرها، فقال حسان (رضي الله عنه): أنا والله أشعر منها.
فقال النابغة: حيث تقول ماذا؟ قال حسان: حيث أقول:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى **** وأسيافنا يقطرن من نجدةٍ دما
ولدْنا بني العنقاء وابني محرّق **** فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا ابنما
فقال النابغة: إنك شاعر لولا أنك:
قلت " الجفنات " فقللت العدد، ولو قلت " الجفان " لكان أكثر.
وقلت " يلمعن بالضحى " ولو قلت " يبرقن بالدجى " لكان أبلغ في المديح،
لأن الضيف بالليل أكثر طروقاً.
وقلت " يقطرن من نجدةٍ دما" فدللت على قلة القتل، ولو قلت " يجرين "
لكان أكثر لانصباب الدم.
وفخرت بما ولدتَ، ولم تفخر بمن ولدك.
ـ[محمد الشمالي]ــــــــ[18 - 12 - 07, 02:42 ص]ـ
أستاذنا الفاضل أبو عبد االمعز أثابك الله من الخير على ماتفضلت به هنا ... والذي أمتعنا وأطربنا فزدنا منه بارك الله لك.
ـ[أبو عبد المعز]ــــــــ[19 - 12 - 07, 03:35 ص]ـ
4 - وقال " المسيب بن علس ":
فَلأَهْدِيَنَّ مع الرياحِ قصيدةً ... مني مُغَلْغَلةً إِلى القَعْقاعِ
تَرِدُ المِياهَ فما تزالُ غَريبةً ... في القومِ بين تَمثُّلٍ وسماع
مقصد الشاعر التنبيه على" انتشار" شعره، ولهذا الغرض وظف أدوات تعبيرية مختلفة، لكنها تلتقي جميعا في تحقيق ذلك المقصد، كل أداة بحسبها.
1 -
استوفى الشاعر في البيت الأول كل عناصر الإرسالية:
المرسل/الشاعر:"مني"
المرسل إليه: القعقاع.
الرسالة:القصيدة.
القناة:الرياح.
الملاحظ أن الشاعر قدم ذكر الرياح التي هي القناة الحاملة للرسالة قبل العناصر الأخرى لتوقف مقصد الانتشار عليها .. فليس المهم –هنا على الأقل-مضمون القصيدة، أو مبدعها، أو المعني بها،بقدر ما يهم انتقالها في الآفاق بسرعة .. فلا جرم أن وظف" المسيب " صيغة الجمع (الرياحِ) مستهدفا لاستغراق جميع الأمكنة فضلا عن السرعة في طي المسافات ...
2 -
مُغَلْغَلة
هذه الصفة -ذات التعددية الدلالية -تظهر وجوها ثلاثة للقصيدة المرسلة بناء على المعاني المعجمية التالية:
الغَلْغَلَة: دخول الشيء في الشيء حتى يخالطه. غلْغَلَ في الشيء، وتَغَلْغَلَ في الشجر، إذا دخل في أغصانه.
الغلغلة: الجلد إذا نَهِكَه الدِّباغ قيل أديمٌ مُغلْغَل .. (كما في المخصص).
الغلغلة: رِسالَةٌ مُغَلْغَلَةٌ: مَحْمُولةٌ من بلدٍ إلى بلَدٍ ...
فعلى الأول يكون الوصف للقصيدة على محور علاقتها بالمتلقي: تتغلغل في النفوس وتنفذ إلى القلوب.
وعلى الثاني يكون الوصف للقصيدة على محور علاقتها بالشاعر مبدعها: حبكها وأتقنها وثقفها مثلما يفعل الدباغ بالأديم ..
وعلى الثالث يكون الوصف للقصيدة على محور علاقتها بالقناة الحاملة: انتقال من بلد إلى بلد ..
والمعنى الأخير أظهر .. لأنه المتسق مع السياق أولا، ولشيوع استعمال هذا الوصف- حتى أن الصفة قامت مقام الموصوف مع فعل البلاغ -ثانيا ...
قال شاعر:
أَبْلِغْ أبا مِسْمَعٍ عنِّي مُغَلْغَلَةً ... وفي العِتابِ حَياةٌ بينَ أقوامِ.
قال غيره:
أَبْلِغْ بَني كاهِلٍ عَني مُغَلْغَلَةً ... والقَوْمُ مِنْ دونِهِمْ سَعْيا فمَرْكُوبُ
قال آخر:
ألا من مُبْلِغُ الحُرَّيْنِ عَنِّي ... مُغَلْغَلَةً وخُصَّ بها أَبِيَّا.
3 -
تَرِدُ المِياهَ
تعبير جميل جدا من أربعة وجوه:
أولا:
تصعيد بلاغي في وصف حركية انتشار القصيدة ... فالقصيدة الآن لها حركية ذاتية مستغنية عن الرياح وغيرها، ترد الماء من تلقاء نفسها كأي كائن عاقل حر!
ثانيا:
الماء هو المكان الذي لا بد أن يقصده الناس مرغمين ... فكأن القصيدة "اهتدت بذكائها" إلى أن موارد الماء هو المكان الأنسب للشيوع والانتشار ..
ثالثا:
تصعيد بلاغي مرة أخرى ففي البيت الأول كانت القصيدة هي التي تذهب إلى الناس محمولة على أجنحة الرياح .. أما الآن فقد شرفت وتعززت فأصبح الناس هم الذين يأتون إليها- إلى موارد الماء-
رابعا:
تشخيص القصيدة وتعقيلها بحيث أصبحت فردا من الناس تعطش وتحتاج إلى الماء وترده مع من يرد منهم!!
4 -
فما تزالُ غَريبةً ... في القومِ بين تَمثُّلٍ وسماع
حركية أخرى للقصيدة لكن من نوع آخر:
في البدء كانت الحركة طبيعية سماوية:" فَلأَهْدِيَنَّ مع الرياحِ قصيدةً .. "
ثم كانت حركة طبيعية أرضية: "تَرِدُ المِياه ... َ"
وهاهي الآن حركة ثقافية عقلية: من شفاه إلى آذان ومن آذان إلى أفئدة ..
قصيدة غريبة ..
لكن الغرابة هنا ليس بمعنى التوحش الذي يثير التوجس ... -والإنسان يخشى بفطرته كل ما هو غريب غير مألوف-
بل بمعنى الندارة والعزة .. فهي ليس لها مثيل، نسيج وحدها،ومن ثم يجب التهافت عليها والتنافس في اقتنائها والمبادرة إلى حيازتها لأنها إن لم تقع في اليد فقد حرمها الإنسان إلى الأبد إذ لا ثاني لها .. " فما تزالُ غَريبةً"
ملاحظة:
هدفنا من تحليل مثل هذه الأبيات وكشف جمالها هو .... بيان إعجاز القرآن!!
ولا غرابة ...
فإن كان أمثال المسيب بن علس والسلكة أم السليك قد تفتقت عبقرياتهم عن مثل ذياكم الإبداع ...
وإذا كان هؤلاء وأمثالهم أسكتهم القرآن وأعجزهم .... فماذا يعني هذا!!!
¥