تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

«للبصائرِ طرَفان: أعلى، وهو معْرِض العربيّة الرّاقيةِ في الألفاظ والمعاني والأساليب. وهو السُّوقُ الذي تُجلبُ إليه كرائمُ اللّغة من مأْنوسٍ صيّره الاستعمال فصيحاً، وغريبٍ يصيِّره الاستعمال مأنوساً؛ وهو مَجْلَى الفصاحة والبلاغة في نمطهما العالي. وهو أيضاً النموذج الذي لو احتذاه الناشئون من أبنائنا الكتّابِ لفَحُلَتْ أساليبُهم، واستحكمتْ ملَكاتُهم، مع إتقان القواعد ووفْرة المحفوظ. ولهذا الطّرَف رجالُه المعدودون. وهو نمَط إعجابِ أدباء المشرق بهذه الجريدة».4

فأسُس الكتابة الأدبيّة الراقية لدى محمد البشير الإبراهيمي تمثُل في طائفة من الأسُس، من أهمّها:

1. رُقيّ الألفاظ والمعاني والأساليب. ولا يتأتَّى هذا الرّقِيُّ في نسْج الكتابة الأدبيّة، لكاتب من الكتّاب، حتّى يكونَ ألَمَّ على محفوظٍ غزير من النّصوص الأدبيّة راقٍ؛ إذ لا يُعقل أن ينبُغَ كاتبٌ كبيرٌ وهو لا يحفَظ نصوصاً أدبيّة كبيرة. وجِمَاع الشّأن في هذه المسألة هو ما يُطلِق عليه الشيخ «معرِض العربيّة الراقية». وواضح أنّ بعض المتأدّبين اليوم قد لا يقتنعون بمصطلح «العربيّة الراقية»، وهو مجرّد توهّم منهم ومُغالطة، وإقرار بالقصور؛ لأنّ كلّ اللّغات الإنسانيّة الكبيرة فيها مستوياتٌ متدرّجةٌ من التعبير. فلو أخذْنا اللّغة الفرنسيّة مثالاً في ذلك لألفينا لغةَ أناطول فرانس، وأندري جيد، وسَوائهما من عمالقة الكتّاب الفرنسيّين غيرَ لغةِ أيّ كاتبٍ صَحَفيّ فرنسيّ بسيط، أو أيّ روائيّ مبتدئ محروم. وإذن، فلا سواءٌ لغةٌ عالية سائلة تُمْتَحُ من ضِئْضِئِ الْمَعين، ولغةٌ بَكِيئةٌ تُؤْخَذُ من نهاية الساقية. فأيّ كاتب كبير إنّما يسْتميز باصطناع ألفاظٍ من اللّغة لا يصطنعها سَواؤُهُ من وجهة، وتكون هذه الألفاظ نفسُها بديعةً قشيبة عالية من وجهة أخرى، قبل أن نتحدّث عن الأفكار التي هي مطروحة في الطّريق، على حدّ مذهب أبي عثمان الجاحظ الذي عرَض في بعض كتاب «البيان والتبيين» تحدّث فيه عن كَلَفِ العامّة بصنف من الألفاظ لا تصطنعها الصفوة الصافية، مثل «البُرْمة» مكان «القِدْر»، والحنطة مكان «البُرّ»، و «الخِيار» مكان «القثّاء»،5 وهلمّ جرّاً ...

ولو جئنا نبحث في اللّغة التي يصطنعها اليوم الإعلاميّون العرب لوجدناها أحَطَّ ما تكون نسْجاً، وأسَفَّ ما تكون ألفاظاً، إلى درجة أنّ بعض الكلمات يصطنعونها فيحسبونها من العربيّة وما هي من العربيّة في شيء، مثل قولهم: «طال» بمعنى امتدّ إلى ... ، أو أتَى على ... وإنّما هو «طاَوَلَ يطاوِل»، وليس «طال يطال»، التي لا وجود لها في العربيّة ... كما أنّ كثيراً من الجرائد اليوميّة في الجزائر تكتب الثاء، مثلاً، تاءً! ... ولا تلتفت إلى اسم «إنّ» فترفعه إلى ما فُوَيْقَ قُنَنِ الجبال! بل ترتكب أخطاء إملائيّةً في العناوين، حتّى تعملَ بمبدأ «كذْبة المنبر بلقاء»، فتكتب ما هو بالضاد، بالظاء! واللّه المستعان على ما فرّط النّاس في مكانة العربيّة، على عهدنا هذا! ... ونحن نَعجب من القائمين على هذه الجرائد كيف يتجرّءون على إيذاءِ العربيّة، والإساءة إليها، من خلال عبثِهم بقواعدها وإملائها؟ ... وكيف لم يفكّروا في توظيف أناس يعرفون العربيّة يصحّحون لجرائدهم اللّغة قبل القذْف بها إلى المطابع، ثمّ إلى القرّاء؟ 6 ...

وإذا كان النّاس أصبحوا يتحمّسون لتأسيس جمعيّات لحقوق الإنسان، وحقوق الحيوان، وحقوق المرأة، وحقوق الطفل ... فما كان أولى للغَيَارَى على العربيّة أن يؤسّسوا جمعيّة لحقوقها! ...

وبحكم أنّ الإبراهيمي كان رئيس تحرير جريدة راقية، تمثّل مدرسة لغويّة وأدبيّة، فقد كان يومئ، فيما يبدو، إلى بعض هذه الكتابات الرّديئة التي كانت تَرِدُ على «البصائر» فحدّدَ مذهب هذه الجريدة العجيبة في الكتابة ... فلْينظرِ النّاظرُ أين كنّا بالأمس، من شأن العربيّة الإعلاميّة، وأين صرْنا اليوم؟ والإبراهيميّ بتحديده مستوى الكتابة الراّقية، حدّد تلقائيّاً مستوى الكتابة الدّنيا، وهي كما يقول: «ما ينحطّ عن تلك المنزلة، ولا يصل إلى درجة الإسفاف. وبين الطّرَفين أوساطٌ ورُتَبٌ تعلو وتنزِل. وهي مُضْطرَبٌ واسعٌ يتقلّب فيه كتّابُنا: من سابقٍ إلى الغاية مستشرِفٍ لبلوغها، ومُقْصِرٍ عن ذلك».7

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير