تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

2. وقد تمثَّل الإبراهيمي اللّغةَ معرضاً قائماً في سُوق أنيقة تُعرض فيها كرائمُ الألفاظ؛ وهو بذلك يكون قد حدّد، تلقائيّاً، مواصفاتِ هذه السّوق الرّفيعةِ التي ليست كأيِّ شيءٍ من الأسواق، تُعرَض فيها أيُّ بضاعة من البضائع الْمُزْجَاة؛ بل هي سوق تُجْلب إليها كرائمُ ألفاظِ العربيّة الْمُؤْتَنِقة، وعقائِلُ المفردات الْمُؤْتلقة ...

وقد يكون الإبراهيمي أوّلَ من أطلق صفة الكرائم على الألفاظ العربيّة الراقية، فشبّهها ببنات الأكارم والأكابر من النساء؛ فإنّما تطلق الكريمة والعقيلة على المرأة الشريفة الحسيبة. فالكريمة تطلق في العربيّة على أرقَى الشيء وأجودِه مكانةً، وأشرفِه منزلةً. ولَمّا فكّر الإبراهيمي في صفة بديعة تظاهره على أن يصفَ بها ألفاظ العربيّة العالية لم يجد شيئاً غيرَ صِفَةِ «الكرائمِ» فوصَفَها بها، تعظيماً من شأن اللّغة، وتشريفاً لمنزلتها؛ وذلك بحكم أنّها مفتاح المعرفة، وأنّها الأداةُ الأولى للتواصل بين الناس في المجتمعات المتحضّرة. وأنّها، بالإضافة إلى ذلك، وبالقياس إلى المسلم، هي مفتاح الإيمان بتمكينه من فهْم نصّي القرآن والحديث، وهما أرقَى وأعلى ما في نسْج العربيّة على الإطلاق ... وبمنْحِ هذه الصفة الكريمة لضرْبٍ من ألفاظ اللّغة خرج عن ذلك، منها، كلُّ ما لا يمكن أن ينضويَ تحتها من الألفاظ السّوقيّة، والكلمات التي ابتذلها الاستعمال فأفقدها ما قد يكون كان في أصلها من بهاء وجمال.

3. نجد محمّداً البشير الإبراهيمي يصطنع مصطلحيْن اِثنينِ في هذا المقام وهما: «المأنوس»، و «الغريب». فأمّا الغريب فهو معروف عند النّاس. وأمّا المأنوس فمصطلح من مصطلحات الشيخ لم نعثرْ عليه في المعاجم العربيّة بالمعنى الذي اصطنعه هو عليه. ولقد اصطنعه ليكون مقابلاً للّفظ الْحُوشيّ. فاللّفظ المأنوس هو الذي يستأنس له القرّاءُ أو المتلقّون فتقبَلُه أذواقُهم، ولا تنبو عنه أسماعُهم؛ وذلك على الرغم من أنّه كان في أصله غريباً حوشِيًّا. فالاستعمال الكثير لمثل هذه الألفاظ، في تمثّل الشيخ، هو الذي يصيّرها مأنوسةً مألوفةً لدى المتلقّين.

في حين أنّ الغريب إنّما يراد به إلى غرائب العربيّة ممّا يقلّ في الاستعمال، ويندر في الكلام بين النّاس، ولا يقع إلاّ بين الذين يعرفون اللّغة. بيد أنّ الإبراهيمي لا يُقرّ بوجود غريبٍ أصلاً، وذلك بحجّة أنّ الغريب ليس غريباً إلاّ على مَن لا يعرف العربيّة؛ وكأنّ من واجب الكتّاب الكبار أن يُلمّوا بهذه الألفاظ من العربيّة، ثمّ يصطنعوها في كتاباتهم حتّى تغتديَ مألوفةً مأنوسة، ومتداوَلةً مفهومة. ولو حُقَّ لنا أن نمثّل بمصطلحات من السياسة والاقتصاد والإعلام، لألفينا كثيراً من الكلمات جرتْ على ألسنة العوامّ، على هذا الزمان، بفضل استعمالها في اللّغة الإعلاميّة اليوميّة ... وهذه مأثُرةٌ تُحسبُ لرجال الإعلام، بعد الذي كنّا قسَوْنا عليهم في اصطناع اللّغة المنحطّة! فكأنّ الشيخ كان يومئ إلى بعض هذا بقوله: «وغريب يصيّره الاستعمال مأنوساً».

4. وبحكم هذه المبادئ التي وضعَها الإبراهيميّ للغة الكتابات التي كان يمكن أن تُقبَلَ للنّشر في «البصائر»، فقد كان يُضطرّ إلى إهمالها إذ يقول عن ذلك: «ولكنّ بعض الكتّاب، هداهم اللّه رُشدَهم، بالَغوا قبل أن يبلُغوا، فهم يوافوننا بمقالاتٍ دون الطّرَف الأدنى، فنُضطرُّ إلى إهمالها اضطراراً، فيلوذون بحقّ «التشجيع». ( ... ) ولْيفْهَموا أنّ الاعتماد على التشجيع، مُعْطش ومُجيع»! 8

وبفضل هذه الصرامة اللّغويّة أصبحت جريدة البصائر مدرسةً أدبيّة، مثارَ إعجاب المشارقة والمغاربة جميعاً؛ فكان أدباءُ ومثقّفون منهم يحفظون نصوصاً من مقالات الإبراهيمي فيستظهرونها استظهاراً؛9 فلم يتكرّر ذلك في تاريخ الصحافة الوطنيّة، حيث إنّ لغة جرائدنا اليوم هي أقرب إلى العامّيّة منها إلى الفصحى! ... حتّى أصبح الواحد يخشَى على لغته -بالإقدام على قراءتها- مِن لغتها! ...

ـ[عبد القادر بن محي الدين]ــــــــ[07 - 01 - 08, 10:34 م]ـ

ثانياً. لغة السرور لدى الإبراهيمي

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير