تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

إنّ الذي يعود إلى افتتاحيّة «البصائر» الثانية التي دبّجها يراعُ محمدٍ البشير الإبراهيمي يندهش لذلك الفيْض الفائض من العربيّة التي كانت تنثال على قريحته انثيالاً، وتُقْبل عليه أرسالاً أَرْسالاً، فتحسّ كأنّه كان يدفعها عنه فلا تندفع، ويُبعدها عن يراعه فلا تبتعد ... لقد كان في نفْس الشيخ شيءٌ ولو ظلّ خفيًّا من الأريحيّة والسعادة والسرور وهو يدبّج تالِك الافتتاحيّةَ العجيبة للعَدد الأوّل من جريدةٍ، كالخَريدة؛ وصحيفة، كالأَنِيفَة، وجميلة، كالْبَتِيلَة؛ ظلّت متخفّيةً قريباً من سبعِ سنواتٍ عجافٍ، على الرغم من تطلّع كثير من النّاس إلى قراءتها أثناء تغيّبها؛ وكأنّ الشيخ أحسّ بشيء خارجيّ يتهدّد ذلك المشروعَ الإعلاميّ الجميل، فالْتمس من اللّه تعالى وهو يجأَر له بالدعاء أن يكلأ مشروعه الكبير، وأن يثبّته فلا يتعثّر، وأن يبارِكَ فيه فلا يتبخّر؛ فتكونَ تلك الابتهالاتُ، كما يقول الشيخ نفسُه، بمثابة «عُوذَةٍ للجريدة في طَوْرها الجديد»، حين كتب هذه اللّوحة:

«اللّهمَّ يا ناصرَ المستضعَفين انصُرْنا وخُذْ بنواصِينا إلى الحقّ؛

واجعلْ لنا في كلّ غاشيةٍ من الفتنةِ رِدْءاً من السّكينة؛

وفي كلّ داهمةٍ من البلاء دِرْعاً من الصبر؛

وفي كلّ داجيَةٍ من الشّكّ عِلْماً من اليقين؛

وفي كلّ نازلةٍ من الفَزَع واقيَةً من الثبات؛

وفي كلّ ناجمةٍ من الضَّلال نُوراً من الهداية ... ».10

فهذا الابتهال لا يعبّر عن حزن أو غضب أو قلق، بمقدار ما يعبّر عن أمل وتحفّز وتطلّع؛ فكأنّ العزم كان معقوداً، وكأنّ المسار كان مرسوماً، وكأنّ الخطّ كان مسطوراً، فلم يكن بقيَ لتحقيق الغاية إلاّ الْتماسُ العوْن من ربّ السماء ...

وواضح أنّ العالِمَ بالأسلوبيّات يُدرك، من أوّل وهلة، البنية النّسْجيّة التي تتحكّم في تركيب هذه اللّغة، وسَوْق هذه الألفاظ. ومن أجل ذلك عرضْناها على طريقة الكتابة الشعريّة التي تظاهر على تبيُّن بنية نسْجها، وطريقة عرْضها. وكان من الأَوْلى أن تُكتبَ في الأصل كذلك. فالإبراهيمي يبني أحياناً نسْجه اللّغويّ على ما نُطلق عليه نحن «الوتَد الأسلوبيّ» في نسْج الأساليب العربيّة العالية؛ وذلك بوضْع مُرتَكَزٍ من الجملة في مستهلّ الكَلام يقوم عليه ما بعدَه فيتكرّر، ويظلّ هو واحداً لا يتعدّد، كقول أبي حيّان التوحيديّ، مثلاً، في إحدى عجائبيّات رسائله:

«كتبتُ إليك:

والربيعُ مُطِلٌّ، والزمانُ ضاحكٌ، والأرض عَروسٌ، والسماءُ زاهرٌ، والأغصانُ لدْنة، والأشجارُ وَرِيقَة، والغُدْرانُ مترَعة، والجبالُ مبتسمة، والرياضُ مُعْشَوْشِبة، والْجِنان ملتفّة، والثّمارُ متهدّلة، والأوديةُ مطّردة ... ».11

فالوتَد الأسلوبيّ في كلام أبي حيّان، كما هو بادٍ من طريقة تقديمه في الكتابة، هو قولُه: «كتبت إليك». فواوُ الحال المتكرّرة هنا كأنّها تتضمّن تَكرارَ قوْلتِه الوَتَدِيّةِ الأولى، مع كلّ تشكيلة نسْجيّة في أسلوب هذا الكلام.12

وكذلك نسْجُ الكلام في أسلوب الإبراهيميّ، فالوتَد الأسلوبيّ الذي يقوم عليه لاحِقُ الكَلام هو قوله:

«اللّهمّ يا ناصرَ المستضعَفين انصرْنا وخُذْ بنواصينا إلى الحقّ»، وهو الوتَد المركزيّ. وأمّا الوتد المباشر الذي يرتبط به نسْج الكلام فهو قوله: «واجعلْ لنا ... » حيث إنّ بعدها تأتي تشكيلاتٌ نسْجيّة متماثلة يتكرّر فيها ضمنيّاً هذا الوتَد: «وفي كلّ داهمة ... ؛ وفي كلّ داجية ... ؛ وفي كلّ نازلة ... ؛ وفي كلّ ناجمة ... ».

ونلاحظ أنّ المادّة اللّغويّة التي نُسِجَ منها هذا الكلام متماثلةٌ بحيث نجد قيَماً لغويّة واحدةً هي التي تتكرّر متماثلةً لِتتشاكلَ فيما بينها، فتكوِّنَ نسْجاً عجيباً متناسقاً يشبه منغومةً موسيقيّة متجانسة، إلى درجة أنّه يمكننا تقديمُها في شكل معادلة، أو جدول تتماثل فيه القيم:

السكينة

من

ردءاً

الفتنة

من

غاشية

كلّ

في

الصبر

من

دِرعاً

البلاء

من

داهمة

كلّ

في

اليقين

من

عِلْما

الشّكّ

من

داجية

كلّ

في

الثبات

من

واقية

الفزَع

من

نازلة

كلّ

في

الهداية

من

نُوراً

الضلال

من

ناجمة

كلّ

في

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير