فهذا الدّعاء على الشخصيّة المطروحة للهجاء والإنحاء عليها باللَّوَائم ليس انكأَ منه شيءٌ! فهو يصطنع «لا» الدّعائيّة فيُدْخلُها على العفو إيغالاً في صناعة الكلام، وإبداءً للقدرة الخارقة على التحكّم في العربيّة العالية ونُسوجها العِجاب، كما وردت في أعلى نماذج البيان العربيّ ... والأنكَأُ من الدّعاء على هذه الشخصيّة هو ربْطُها بشخصيّة مغربيّة اشتهرتْ بالغدْر والخيانة، وذلك حين قبِلتْ أن تحِلّ محلّ الملِك الشرعيّ للبلاد. بيدَ أنّ الإبراهيميّ لم يعيّر الشخصيّة المهجوّة، ولم يَلُمْها بالطريقة الرّكيكة المباشرة؛ ولكنّه اصطنع في ذلك «لكأنّ» التي لا تدلّ هنا على الشكّ، بمقدار ما تدلّ على اليقين. وألحقها بعبارة تقلّل من دلالة الانتماء ظاهراً، في حين أنّ النّصّ كان يريد إلى عكسها (فكأنّ ذلك كان من باب قول الحطيئة:
*واقعدْ فإنّك أنت الطّاعِمُ الكاسي!)
وهي لفظة: «شُعْبة». فعوض أن يعبّر النّصّ بصورة مباشرة فيتّهمَ الشخصيّة المهجوّة بأنّها خائنة للوطن، أو على الأقلّ متحزّبة تحزّباً أعمى، اصطنع ما يوحي بذلك أوّلاً، ثمّ يُوَكّده آخراً: «لكأنّ فيكَ، واللّهِ، شُعبةً من سَمِيِّك». والذي يُحيل هذا الكلام من معنى التشبيه المشكوك، إلى معنى اليقين المحتوم، هو القسَم -واللّهِ- الواقعُ على سبيل الاعتراض. لأنّ القسَم لا يكون إلاّ على شأن مُوَكَّد، لا على شأن مشكوك فيه.
وتتنازع الشيخَ طريقتُه الْمُؤْثَرَةُ في الكتابة فيعودُ إلى توظيف الإيقاع وتقطيع الْجُمل بعد ذلك:
«ولو كنتَ عاشرَ عشرةٍ ممّن:
يحمِل هذا الاِسْمْ،
وينطِق بهذا الإثمْ؛
لاطّرَدتِ القاعدَهْ،
وتواتَر القياسْ».
فهذه النسيجة تنهض على الاتّكاء على ما نسمّيه «الوتَد الأسلوبيّ»، وهو قوله: «ولو كنتَ عاشرَ عشرةٍ ممن ... »، لينطلق النّاصُّ من بعد ذلك إلى تقطيع الكلام على نحويْنِ متوازيين في النسج والإيقاع، ليؤثّر في قارئه فيجعلَه شديد التّعلّق بهذا الكلام الذي لا يعوّل على جماليّة النسج فحسب، ولكنّه يعوّل أيضاً على جماليّة الإيقاع، داخليّاً وخارجيّاً. فقد نهضت تقطيعاته الكلاميّة على أربعِ جُمل: كلّ جُملتين تكوّنان وحدةً إيقاعيّة من حيثُ إنّهما توازيَتا في تقدير الألفاظ، وتساوَيتا في تجْريس الإيقاع، كما يبدو ذلك من خلال عرضهما في أربعة أسطار، منذ قليل.
ولَمّا أحس الشيخ أنّه أخطأه الإيقاع في التّأثير في قارئه، من بعد ذلك، عمد إلى توظيف السخريّة وثقافته الإسلاميّة الغنيّة فحلّل هذا الاسم –تهامي- وأنّه لو كان عاشر عشرة يذهب إلى ما ذهب إليه في الانتقاص من «البصائر» لكان النّاس هجروا استعماله، كما هجروا إطلاق «عبد العزّى» على أبنائهم؛ بل لكانوا انتقلوا من تهامة إلى نجران. والشيخ يوازن، هنا، بين سيرتين اثنتين متقابلتين: في إحداهما النّبل والشرف والفضيلة وهما: تهاميّ، وتهامة؛ وفي إحداهما الأخرى اللّؤم والاستخذاء والرذيلة، وهما: عبد العزّى، ونجران ...
وأمّا الكلام كلّه في لَذْعه ونكْئه، وفي جماله وطرافته، هو الذي أرجأه ليختم به مقالته القصيرة حيث أنهاه بنسيجة عجيبة التركيب، طريفة المعنى؛ فقد أحسّ الشيخ وكأنّه أغار على خامل من الرجال، وأرسل قلمه على من ليس أهلاً للعتاب والهجاء، فختمه بما يُشبه الاعتذار الذي كان في الحقيقة أنكأ في المهجوّ من الهجاء المباشر نفسِه؛ فقد أسرّ له أنّه لا يعلم مدى مكانته في المجتمع، ومنزلته في مدارج الحزب الذي كان ينتمي إليه؛ فإن كان أهلاً لذلك الهجاء والعتاب فهو له ضرْبٌ من التّأديب، وإمّا لا، فليَرْدُدْه على الشيخ مشكوراً معذوراً ...
ولقد جمع الإبراهيمي في هذه الفقرة بين الصناعتين: بين التقطيع الخالي من تماثل الأجراس، ولكنّه غنيّ بتماثل عدد الألفاظ الذي يقوم عليه التقطيع من وجهة:
1. «إنّنا لا نعلم:
منزلتك في النّباهة،
ودرجتَكَ في الحزب»؛
وبين توظيف الإيقاع -بعْد العَمْدِ إلى الاتّكاء على الوتَد الأسلوبيّ- من وجهة أخرى:
2. «فإن كنت تستحق هذا العتابَ فهو تأديبٌ لك، وإن كنت لا تستحقّه:
لخمول قدْرك،
وخسوف ذِكْرك؛
فأرجعه إلينا مشكورَا،
واردُدْهُ علينا معذورَا».
ـ[إبراهيم الجزائري]ــــــــ[09 - 01 - 08, 01:02 م]ـ
بارك الله فيك أيها الأمير
ـ[معاذ جمال]ــــــــ[09 - 01 - 08, 03:33 م]ـ
هل للشيخ كتب مصورة على الشبكة؟؟
ـ[محمد بن عبدالله التميمي]ــــــــ[10 - 01 - 08, 10:51 م]ـ
نفع الله بك , جُهد كبير بذلته أناملك فبورك فيها وبصاحبها ...
الحق’أنني استمتعت كثيراً بهذه الصفحة ...
آدام الله عافيتك,,,واسلم لمحبيك,,,