تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

والشمائلْ ويقابله الطّباعْ، والارتخاءْ ويقابله النِّفاقْ، خارجيّاً. ثم وقع ختْمُ النسيجة بجملة طويلة لا ترتبط إيقاعيّاً لا بما بعدها، ولا بما قبلَها، لتكون خاتمة الكلام، إلاّ من حيث «في الأسماء» حيث وقع إشباعها بلفظين آخريْن لتكون هذه الجملة وتَداَ بَعْدِيّاً: فإنّ السيرة الإيقاعيّة تختلف في النسيجة التي جئنا بها كلّ الاختلاف؛ فقد عاد الشيخ إلى دأْبه، وآبَ إلى عِتْرِه، فصنع من الألفاظ لوحة إيقاعيّة تصدَحُ بالموسيقى اللّفظيّة المتغافصة الأنغام، والمتراقصة الأصوات. لقد أقام الشيخ صناعة لوحته على ثلاثِ نسائجَ تكوّن لحمتَها، ووتَدٍ أسلوبيّ آثرَ أن يكون آخراً، لا أوّلاً:

«ولقد كان العرب صخوراً وجنادلْ،

يومَ كان من أسمائهم صخْرٌ وجَنْدَلَهْ؛

وكانوا غُصَصاً وسُمومَا،

يوم كان فيهم مُرَّةُ وحَنْظَلَهْ؛

وكانوا أشواكاً وأحْساكَا،

يوم كان فيهم قَتادةُ وعَوْسَجَهْ.

فانظر ما هم اليوم؟».

غير أنّ العجب ليس في هذه القدرة الخارقة في التحكّم في اللّغة من أجل أن يقع بها صنعُ كلام يحاكي الأنغام الموسيقيّة البديعة؛ ولكن في ربْط معاني الألفاظ المصنوعِ بها الإيقاعاتُ ربْطاً تشاكليّاً لفظاً، وربْطاً تشاكليّاً آخرَ معنىً، ليقع تركيب الشّكل مع المضمون، وليقع ملاءمةُ الدّالّ مع المدلول. أرأيت أن قوله:

«لقد كان» يقابله: «يوم كان»؛

و «صخورا» يقابلها: «صخْر»؛

«وجنادل» تقابلها: «جندلة»؛

و «غُصَصاً» يقابلها: «أشواكاً»؛

«وسُموماً» يقابلها: «أحساكاًً»؛

و «مُرّة» يقابلها: «قتادة»؛

«وحنظلة» يقابلها: «عوسَجة»؛

«وكانوا» يقابلها: «وكانوا»، وذلك من حيث الدَّالِّيَّةُ.

في حين أنّ الكلام يتقابل في معظمه متشاكلاً من حيث المدلوليّة، كما نلاحظ ذلك في سيرة: الغصص والسموم والمرارة، والصخور والجنادل، والأشواك والأحساك، والقتاد والعوسج، وهي الدّوالّ التي صنع منه الإبراهيميّ هذه اللّوحة في وجهها المدلوليّ أيضاً.

ونودّ أن نتوقّف، أخيراً لدى مقالة قصيرة أرسل فيها الشيخ شواظَ سخريّته المحرقة على شخصٍ مغمور يدعى «التهامي»، كتب إلى «البصائر» رسالة ينتقص فيها من الجريدة، وأنّها تحيّزتْ لحزب سياسيّ مغربيّ معيّن، على حساب حزب سياسيّ آخر؛ من حيث كان أولى لها أن تظلّ محايدةً لا تنحاز، فكتب الشيخ يخاطب ذلك الكاتب المغمور الذي أرسل عليه شُواظاً من نار ونحاس، فأحرقه بها فأمسَى حتماً سُخْرَةً في فاس، فكتب كلمةً قصيرة تقع في عموديْن من أعمدة «البصائر»، ما يعنينا منها، خصوصاً، هو خاتمتُها التي يقول الإبراهيميّ فيها:

«لا عفا اللّه عنك يا تهاميّ! لكأنّ فيك، واللّه، شُعبةً من سَمِيِّكَ! ولو كنتَ عاشرَ عشرةٍ ممّن يحمل هذا الاِسم، وينطِق بهذا الإثم، لاطّردَتِ القاعدة، وتواتر القياس؛ وهُجِرَ هذا الاِسمُ كما هُجر «عبد العزّى» في الإسلام، وانتقل النّاس بأبنائهم من تِهامةَ إلى نَجْران!

إنّنا لا نعلم منزلتَك في النّباهة، ودرجتَك في الحزب؛ فإن كنت تستحقّ هذا العتاب فهو تأديب لك، وإن كنت لا تستحقّه -لخمول قدْرك، وخُسوف بدرك- فأرجعْهُ إلينا مشكوراً، واردُدْه علينا معذوراً».35

تنهض هذه اللّوحة الأدبيّة على نسيجتين اِثنتين: الأولى وهي تعوّل على السخريّة، دون الاِلْتِحاد إلى اصطناع الإيقاع، وتقطيع الكَلام، من أوّل أمرها إلى آخره، لكنْ دون التفريط في ذلك تفريطاً كاملاً؛ والأخرى، وتعوّل على صناعة الإيقاع وتوظيفه في التّأثير الجماليّ لدى المتلقّي، تعويلاً تامّاً.

غير أنّ النسيجة الأولى لا تقِلّ قوّةً في السّبْك، ولا رصانةً في النسْج، حتّى إنّ الضّارب يمكن أن يضرب بها الجدار المتين فيَهُورَه! كذلك نرى قوّة هذا الكلام!

- «لا عفا اللّه عنك يا تهاميّ! لكأنّ فيك، واللّه، شُعبةً من سَمِيِّكَ»!

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير