وقد سبقه إلى هذا التزييف إمام الحرمين الجويني الذي لم يرتض تعريف الباقلاني وإنما أومأ إلى بطلانه، فقد قال بعد حكايته له في برهانه: (والذي ذكره رحمه الله فيه نظر، فإنه بنى كلامه على أنّ العقل من العلوم الضرورية، لأنه لا يتصف بالعقل عارٍ من العلوم كلها، وهذا يَردُ عليه أنه لا يمتنع كون العقل مشروطاً بعلوم وإن لم يكن منها، وهذا سبيل كل شَرطْ ومشروط. فإن قيل: ما الذي يبطل ما ذكره القاضي رحمه الله في معنى العقل؟ قلنا: نرى العاقل يذهل عن الفكر في الجواز والاستحالة وهو عاقل) (27).
وأما القاضي أبو يعلى فقد وافق القاضي أبا بكر الباقلاني على حَصْر العقل في بعض العلوم الضرورية، ومَنَعَ جواز أن يكون المراد بالعقل جميع تلك العلوم فقال: (ولا يجوز أن يكون هو جميع العلوم الضرورية، ولا العلوم التي تقع عقيب الإدراكات الخمسة، لأن هذا يؤدي إلى أنّ الأخرس والأطرش والأكمه ليسوا بعقلاء، لأنهم لا يعلمون المشاهدات والمسموعات والمدركات التي تُعلم باضطرار ولا باستدلال، ولا يجوز أيضاً أن يكون العلم بُحسن حسن وقُبح قبيح، ووجوب واجب وتحريم محرَّم من جُمْلة العلوم التي هي عَقْل، لأنّ هذه الأحكام كلها معلومة من جهة السمع دون قضية العقل فوجب أنْ يكون بعض العلوم الضرورية) (28).
وحيث إن قضية الحَصْر والشمول محل نزاع فإن تعريف (العقل) بواحد منهما تعريف لا يَسْلَمُ مِنْ نقدٍ واعتراض ولذلك فإني أرى أنَّ تعريف السرخسي رحمه الله تعالى هو التعريف الراجح للعقل، فالعقل نور إلهي يقذفه الحق تبارك وتعالى في القلب ليتمكن به من المعرفة والإدراك.
وهذا يعني أنَّ العقل ليس مكتسباً من العبد، بل هو هِبة إلهية ومنحة ربانية أنعم الله تبارك وتعالى بها على هذا الإنسان تمييزاً له عن سائر الحيوان.
المطلب الثالث: المناسبة بين الحقيقتين اللغوية والاصطلاحية للعقل بين الحقيقتين اللغوية والاصطلاحية للعقل مناسبة كبيرة وارتباط وثيق، فإنَّ (العقل) الذي هو عبارة عن نور إلهي قذفه الله تبارك وتعالى في قلب الإنسان تكريماً له على سائر أنواع الحيوان، هذا العقل الذي هو بهذه الصفة يتناسب غاية التناسب مع كل معنى لغوي فسَّره به أهل اللسان العربي فهو متناسب مع المعنى الأول (الحِجْرُ والنُّهى) الذي يضاد (الحُمْق) فإنَّ لذلك النور أثره العميق في النفس البشرية يهذَب سلوكها، ويقوَّم أخلاقها، ويلهمها رُشْدها، فلا تتصرَّف بحمق ورعونة، بل تتعامل مع الأشياء حولها بإدراكٍ واعٍ وحكمة مُتَّزنة.
ومتناسب مع المعنى الثاني وهو (الجَمْعُ) إذ القادر على استجماع كل التصورات المطلوبة للحكم على الأشياء واتخاذ القرار المناسب لها إنما هو العاقل الأريب الذي وَعى فأدرك ونظر فقدَّر.
ومتناسب مع المعنى الثالث وهو (الحَبْسُ) فإنَّ العقل يحبس صاحبه على محاسن الأعمال ومكارم الصفات ويحبسه عن الانسياق خَلْف الشهوات التي لو أطلق الإنسان فيها لنفسه العنان لأصبح سابحاً في بحور الرذيلة لانفلاته من قيود الفضيلة.
ومتناسب مع المعنى الرابع وهو (التثبُّت في الأمور) فهذا هو شأن العقلاء الذين وهبهم الله تبارك وتعالى العقل الراجح والفكر الثاقب الذي يَزِنون به الأمور وزناً دقيقاً دون اضطراب في الموقف، أو رعونة في التصرف.
ومتناسب مع المعنى الخامس وهو (التميُّز) إذ مَصْدرُهُ العقل المستنير بالنور الإلهي، وغير العاقل لا يملك مقوَّمات التمييز الصحيح، بل يخبط خَبْط عشواء، ولربما ضرَّ نفسه وأفسدها مِنْ حيثُ يريد نَفْعَها وإصلاحها.
ومتناسب مع المعنى السادس وهو (الَفهْمُ) إذ أنَّ ذلك النور كاشف لحقائق الأمور، فتبدو ناصعةً جليَّةً لا غبش يكدَّرها ولا غموض يعتورها، وهذا هو رُكْنُ الفهم وعماده.
ومتناسب مع المعنى السابع وهو (المَسْكُ) فإنَّ العقل يمسك بصاحبه حتى لا يندفع إلى مالا ينبغي له، ولا يسترسل فيما لا يليق به، وهذا هو الفارق بين العاقل وغيره.
ومتناسب مع المعنى الثامن وهو (الْمَلْجَأ) فإنَّ العقل ملجأ حصين لصاحبه يصونه من كل ما يشينه من أعمال ويحميه من كل ما يسوؤه من تصرُّفات إذا تغلَّب الإنسان على هوى نفسه بالاحتكام إليه والاستجابة لداعيه.
¥