ومن خلال هذا التناسب تتضح لنا أهمية العقل الكبرى في حياة الإنسان، وأنه نعمة عظيمة من نعم الله تبارك وتعالى على عباده جديرة بالحفظ والرعاية حتى يسير ذلك العقل في مساره الصحيح الذي رسمه له المولى الكريم دون حَيْدَةٍ عن الجادَّة أو انحراف عن الصراط المستقيم.
المبحث الثاني: محل العقل
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: أقوال الأصوليين في ذلك
اختلف الأصوليون في المحل الذي يستقر فيه العقل على ثلاثة أقوال:
القول الأول: محل العقل هو القلب.
وإلى هذا القول ذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة (29).
القول الثاني: محل العقل هو الرأس.
وهذا القول منسوب إلى الحنفية، ونسبه الباجي إلى الإمام أبي حنيفة، وهو المشهور عن الإمام أحمد (30).
وفي تعميم نِسْبَة هذا القول إلى الحنفية رحمهم الله تعالى نَظَر، وذلك أنَّ مِن الحنفية مَنْ صَرَّح بأن العقل نور في القلب ومنهم فخر الإسلام البزدوي رحمه الله تعالى حيث قال: (أما العقل فنور يضيء به طريق يُبْتَدَأ به من حيثُ يَنْتَهي إليه دَرْكُ الحواس، فيبتدىء المطلوب للقلب فُيدْركه القلب يتأمّله بتوفيق الله تعالى) (31).
وكذلك السرخسي رحمه الله تعالى حيث عرف العقل بأنه " نور في الصدر" (32).
والصدر يحوي القلب لا الرأس.
وعليه فالقائل بذلك بعضهم وليس جميعهم.
القول الثالث: محل العقل هو القلب، وله اتصال بالدماغ.
وهذا القول منسوب إلى أبي الحسن التميمي (33) وغيره من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله تعالى (34).
المطلب الثاني: الأدلة، والمناقشات
أولاً: أدلة القول الأول:
استدل القائلون بأن العقل في القلب بالأدلة الآتية:
الدليل الأول:
قول الحق تبارك وتعالى: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) (35).
وجه الاستدلال: أطلق الحق تبارك وتعالى القلب هنا وأراد به العقل، فدل على أن القلب محله، لأن العرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا كان مجاوراً له، أو كان بسبب منه.
الدليل الثاني:
قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها) (36).
وجه الاستدلال: أنه تعالى جعل العقل في القلب، ولو لم يكن القلب محلاً له لما جعله كذلك.
الدليل الثالث:
قوله سبحانه: (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (37).
وجه الاستدلال: أن الله تعالى بيَّن أن العقول في الصدور، والمعنى: يتغطى على العقول التي في الصدور.
الدليل الرابع:
قوله عز وجل: (لهم قلوب لا يفقهون بها) (38).
وجه الاستدلال: أن الفقه هو العلم والفهم والمعرفة، وآلة إدراك هذه الأشياء هي العقل.
الدليل الخامس:
ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الرحمة في الكبد، والقلب ملك ومسكن العقل القلب) (39).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم صرح بأن العقل في القلب، وهو نص في الموضوع.
الدليل السادس:
ما روي عن عدد من الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم أنهم صرحوا بأن العقل في القلب، ومنهم: عمر بن الخطاب، وعلي ابن أبي طالب، وأبي هريرة، وكعب بن مالك، وغيرهم.
وأقوالهم شاهدة على ذلك، كما روي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال يوم صفين: (إن العقل في القلب) (40).
الدليل السابع:
قالوا: إن العقل ضَرْب من العلوم الضرورية، والعلوم محلها القلب.
أما الدليل على كون العقل ضرباً من العلوم الضرورية فهو أن العلم يشتمل على ضروري ومكتسب، ومعلوم أن الإنسان لو لم يكتسب العلم ولم يفكر في الدلائل فإنه يسمى عاقلاً، فإذا خرج منه العلم المكتسب لم يبق إلا أنه علم ضروري.
وأما الدليل على أن العلوم محلها القلب فهو قول الحق تبارك وتعالى: (لهم قلوب لا يفقهون بها) (41).
والفقه هو العلم والفهم والمعرفة، ولو لم تكن القلوب محلاً للعلوم لما أضاف الحق تبارك وتعالى الفقه إليها.
وإذا ثبت أن القلب محل للعلوم كان محلاً للعقل الذي هو بعض تلك العلوم (42).
ثانياً: أدلة القول الثاني:
واستدل القائلون بأن العقل في الرأس بدليلين:
الدليل الأول:
أن العقلاء يضيفون العقل إلى الرأس، فيقولون: هذا ثقيل الرأس، وهذا في دماغه عقل.
وعكس ذلك يقولون: هذا فارغ الدماغ، وهذا ليس في رأسه عقل.
ولو لم يكن العقل في الرأس لما صح منهم ذلك.
الدليل الثاني:
¥