أن الإنسان إذا ضُرب على رأسه زال عقله، ولو ضُرب على جميع بدنه لم يَزُلْ عقله.
فدل هذا على أن العقل في الرأس (43).
ثالثاً: أدلة القول الثالث:
1) استدلوا على أن محل العقل هو القلب بالأدلة نفسها التي استدل بها أصحاب القول الأول.
2) واستدلوا على اتصال العقل بالدماغ فقالوا: إن العقل وإن كان محله في القلب إلا أن نوره يعلو إلى الدماغ فيفيض منه إلى الحواس ما جرى في العقل (44).
رابعاً: (المناقشات):
1) 1) ناقش الفريقان الأول والثالث وهم القائلون بأن العقل في القلب الفريق الثاني القائلين بأن العقل في الرأس في دليليهما بما يلي:
أولاً: ناقشوهم في دليلهم الأول من وجهين:
الوجه الأول:
أن قول العقلاء: " هذا ثقيل الرأس " و" هذا في دماغه عقل " لا يلزم منه أن العقل في الرأس، وإنما قولهم هذا يعني أن العقل نور في القلب يفيض إلى الرأس وإلى سائرالحواس.
فإضافتهم العقل إلى الرأس إنما هي من هذه الحيثية.
الوجه الثاني:
أن منْ قال من العقلاء: " هذا فارغ الرأس "، و" هذا ليس في رأسه عقل " فمرادهم من ذلك أن جفاف الدماغ يؤثر في العقل وإن كان في غير محله، كما يؤثر في البصر وإن لم يكن في محله.
ثانيا: وناقشوهم في دليلهم الثاني:
بأن إزالة العقل بالضرب على الرأس لا يدل على أن العقل في الرأس، بدليل أن الإنسان إذا عصرت أنثياه زال عقله، ولا قائل بأن العقل مستقر هنالك (45).
2) وقد يُناقَشُ الفريقان الأول والثالث فيما استدلوا به على أن العقل في القلب، بما يلي:
أولاً: أن الآيات القرآنية الكريمة لا دلالة فيها على أن العقل في القلب، وإنما مقتضى الآية الأولى أن صاحب القلب السليم من الشبهة والشهوة هو الذي ينتفع بالمواعظ والزواجر.
وكذلك هو مقتضى الآيتين الثانية والرابعة. وأما الآية الثالثة فهي صريحة الدلالة على أن القلب في الصدر، وهذا مما لا خلاف فيه وإنما الخلاف في محل العقل.
ثانياً: أن الحديث والأثر المستدل بهما على أن العقل في القلب لا تنهض بهما حجة، لكون بعض أئمة الحديث ذكرهما في جملة الموضوعات.
ثالثاً: أن القول بأن العلوم محلها القلب غير مسلَّم، ولو سُلَم فلا يدل على أن محل العقل هو القلب.
المطلب الثالث: الترجيح، وبيان سببه
من خلال استعراض الأقوال الثلاثة السابقة، والموازنة بين أدلة كل قول يترجح لدي أن العقل في القلب ويفيض نوره إلى الدماغ، وذلك لسببين:
السبب الأول:
أن استقرار العقل في القلب أو في الرأس أمْر خفي لا يمكن الاطلاع عليه، وما كان كذلك فالحكم فيه موقوف على الشارع، والذي دلت عليه النصوص القرآنية الكريمة في ظاهرها أن العقل في القلب، فيكون القول بمقتضى ذلك الظاهر أولى وأسلم.
السبب الثاني:
أن الذين نسبوا العقل إلى الرأس إنما نسبوه من قبيل أن العقل نور في القلب يفيض إلى الرأس، وكونه كذلك لا يدل على أن الرأس محل له، بل إن الرأس يتأثر بنور العقل وإن لم يكن مستقراً فيه.
وعلى هذا فالخُطْب في هذه المسالة هين، فإن من نسب العقل إلى القلب نظر إلى المقر، ومن نسبه إلى الرأس نظر إلى الأثر، إذ أن اتقاد الذهن أثر لذلك النور المستقر في القلب، وهذا المعنى هو ما ترجمه الشوكاني رحمه الله تعالى بقوله: (ومعنى: " فتكون لهم قلوب يعقلون بها " أنهم بسبب ما شاهدوا من العبر تكون لهم قلوب يعقلون بها ما يجب أن يتعقلوه، وأسند التعقل إلى القلوب لأنها محل العقل، كما أن الآذان محل السمع، وقيل: إن العقل محله الدماغ، ولا مانع من ذلك، فإن القلب هو الذي يبعث على إدراك العقل وإن كان محله خارجاً عنه) (46).
المطلب الرابع: ثمرة الخلاف في المسألة
أفصح الزركشي رحمه تعالى عن ثمرة الخلاف في هذه المسألة فقال: (ومما يتفرع على الخلاف في أن محله ماذا؟ مالو أُوضح (47) رجل فذهب عقله. فعند الشافعي ومالك يلزمه دية وأرش الموضحة، لأنه أتلف عليه منفعةً ليست في عضو الشجة تبعاً لها، وقال أبو حنيفة: إنما عليه دية العقل فقط، لأنه إنما شجَّ رأسه، وأتلف عليه العقل الذي هو منفعة في العضو المشجوج، ودخل أرش الشجة في الدية) (48).
¥