أنه رحمه الله تعالى حكم بالصحة لما أوجبه العقل من أحكام كاستحالة اجتماع الضدين، وأن الكل أكثر من الجزء ونحو ذلك، فقال: (وقد سألوا أيضاً - يعني بهم مبطلي حجة العقل - فقالوا: بأي شيء عرفتم صحة العقل؟ أبحجة عقل أم بغير ذلك؟ فإن قلتم: " عرفناها بحجة العقل " ففي ذلك نازعناكم، وإن قلتم: بغير ذلك فهاتوه، … والجواب على ذلك وبالله التوفيق: أن صحة ما أوجبه العقل عرفناه بلا واسطة وبلا زمان، ولم يكن بين أول أوقات فهمنا وبين معرفتنا بذلك مهلة البتة، ففي أول أوقات فهمنا علمنا أن الكل أكثر من الجزء، وأن كل شخص فهو غير الشخص الآخر، وأن الشيء لا يكون قائماً قاعداً في حال واحدة، وأن الطويل أمدُّ من القصير، وبهذه القوة عرفنا صحة ما توجبه الحواس، وكلما لم يكن بين أول أوقات معرفة المرء وبين معرفته به مهلة ولازمان فلا وقت للاستدلال فيه، ولايدري أحد كيف وقع له ذلك، إلا أنه فِعْل الله عز وجل في النفوس فقط، ثم من هذه المعرفة أنتجنا جميع الدلائل) (90).
السمة الثالثة:
بيَّن ابن حزم رحمه الله تعالى أن الخبر لا تعلم صحته، ولا يعرف كونه صدقاً أو كذباً إلا بحجة العقل، فقال: (فإذاً قد بطلت كل طريق ادعاها خصومنا في الوصول إلى الحقائق من الإلهام والتقليد، وثبت أن الخبر لا يعلم صحته بنفسه، ولا يتميز حقه من كذبه، وواجبه من غير واجبه إلا بدليل من غيره، فقد صح أن المرجوع إليه حجج العقول وموجباتها، وصح أن العقل إنما هو مميز بين صفات الأشياء الموجودات، وموقف للمستدل به على حقائق كيفيات الأمور الكائنات، وتمييز المحال منها) (91).
السمة الرابعة:
أن وظيفة العقل عندهم إنما هي الفهم عن الله تبارك وتعالى لأوامره، وترك تعدي حدوده، والإقرار بأنه سبحانه فعال لما يشاء، وليست كونه يحلَلّ أو يحرَّم فذاك ليس إليه، وليست وظيفته كذلك بأن يقضي أن تكون صلاة الظهر أربعاً وصلاة المغرب ثلاثاً وصلاة الصبح ركعتين، فهذا مما لا مجال للعقل فيه.
قال ابن حزم رحمه الله تعالى: (وقد بينا أن حقيقة العقل إنما هي تمييز الأشياء المدركة بالحواس وبالفهم، ومعرفة صفاتها التي هي عليها جارية على ما هي عليه فقط …، فأما أن يكون العقل يوجب أن يكون الخنزير حراماً أو حلالاً، أو أن يكون التيس حراماً أو حلالاً، أو أن تكون صلاة الظهر أربعاً وصلاة المغرب ثلاثاً … فهذا لا مجال للعقل فيه لا في إيجابه ولا في المنع منه، وإنما في العقل الفهم عن الله تعالى لأوامره، ووجوب ترك التعدي إلى ما يخاف العذاب على تعديه والإقرار بأن الله تعالى يفعل ما يشاء، ولو شاء أن يحرم ما أحل، أو يحل ما حرم لكان ذلك له تعالى، ولو فعله لكان فرضاً علينا الانقياد لكل ذلك ولا مزيد) (92).
المطلب الثاني: دراسة موقف الظاهرية من العقل
موقف الظاهرية من العقل بتلك السمات الأربع المذكورة يعد تأصيلاً شرعياً لمكانة العقل في الإسلام، تلك المكانة التي وضعت العقل في حجمه المناسب دون إفراط في المعيار أو تفريط في الاعتبار، وهذه وسطية محمودة تحقق توازناً في الحكم واعتدالاً في الموقف.
فليس العقل عند أهل الظاهر كمّاً مهملاً لا قيمة له ولا حرمة، وليس إلهاً يملك سلطة التشريع بالتحليل والتحريم، بل هو آلة فهم ووسيلة معرفة، يجعل صاحبه على بصيرة من أمره فلا يصدر أحكاماً متناقضة، كما لا يرفض البديهيات المسلمة، ولا يتدخل بكبرياء وتيه فيما لا مجال له فيه، بل يدور في فلك الشرع مؤيداً ومسانداً لا نداً معانداً.
وبذلك يتضح امتياز الظاهرية على المعتزلة بنظرتهم التوازنية للعقل ووضعه في مكانه اللائق به شرعاً.
المبحث الثامن: العقل عند الشيعة
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: استعراض موقفهم من العقل
العقل عند الشيعة هو الحجة الباطنة، وهو السبيل إلى معرفة حجية القرآن ودلائل الأخبار (93).
وهناك سمتان بارزتان تدلان على موقف الشيعة من العقل وهما:
السمة الأولى:
(أنه لا سبيل لثبوت الشريعة والتوحيد والنبوة إلا بالعقل):
قال محمد رضا المظفر الشيعي: (وهل تثبت الشريعة إلا بالعقل؟ وهل يثبت التوحيد والنبوة إلا بالعقل؟ وإذا سلخنا أنفسنا عن حكم العقل فكيف نصدق برسالة؟ وكيف نؤمن بشريعة؟ بل كيف نؤمن بأنفسنا واعتقاداتها؟ وهل العقل إلا ما عُبد به الرحمن؟ وهل يعبد الديان إلا به؟ (94).
السمة الثانية:
¥