والظاهر أنّ هذا الاختيار سديد في المعترض المتدين العدل، أمّا غير العدل المعروف بعناده وحب الانتصار على الخصم ولو بالاسترسال في الكلام الذي يخرجه عن قواعد الجدل، فإنّه يلزم مطالبته بمستند القول بالموجب تجنبا لإفحام المستدل بغير حق ولتضييع فائدة المناظرة ونشر الكلام
في تسمية القول بالموجب اعتراضا
يذهب بعض أهل العلم إلى أنّ القول بالموجب لا يسمّى اعتراضا لأنّه مطابقة للعلة فلا يبطلها، فإذا جرت العلة وحكمها مختلف فيه فلأن تجري وحكمها متفق عليه أولى (33).
والظاهر أنّ الخلاف لفظي، وقد عدّه إمام الحرمين من الاعتراضات الصحيحة، قال الزركشي: "والمقترح في تعليله: إن أرادوا بقولهم: لا يبطل العلة مطلقا فمسلم، فإنّها لا تبطل في جميع مجاريها، وإن أرادوا لا تبطل في محلّ النزاع فغير صحيح، فإنّه يلزم من القول بالموجب إبطال العلة في محلا النزاع، وهذا هو الذي تصدى المعترض له، وهو إبطال علة المستدل في المحل المتنازع فيه، فلم يصح قولهم: إنّه ليس مبطلا للعلة إلاّ على تقدير إرادة أنه لا يبطلها في جميع مجاريها" (34).
في كون القول بالموجب قادحا في العلّة
جعل الفخر الرازي والآمدي والهندي وغيرهم القول بالموجب من قوادح العلة، ووجهوه بأنه إذا قال بموجبها كانت العلة في موضع الإجماع غير متناولة لمحل النزاع، ولأنّه إذا كان تسليم موجب ما ذكر المستدل من الدليل لا يرفع الخلاف، علمنا أنّ ما ذكره ليس بدليل الحكم الذي قصد إثباته.
وظاهر كلام الجدليين أنّه معارضة في الحكم لا قدح في العلة، لأنّ القول بموجب الدليل تسليم فكيف يكون مفسدا؟ (35) قال التاج السبكي: " إنّ هذا التقدير يخرج لفظ القول بالموجب عن إجرائه على قضيته، بل الحق أنّ القول بالموجب تسليم له. وهذا ما اقتضاه كلام الجدليين، وإليهم المرجع في ذلك، وحينئذ لا يتجه عدّه من مبطلات العلة" (36).
في اعتبار القول بالموجب انقطاعا
الظاهر ممّا نقل عن الجدليين أنّ في القول بالموجب انقطاعا لأحد المتناظرين، قال الخوارزمي: " إذا توجه القول بالموجب انقطع أحد الخصمين: إن بقي النزاع انقطع المستدل، وإن لم يبق النزاع انقطع السائل" (37). وما ذكروه يصحّ في غير المورد الرابع المتقدم بالنظر إلى اختلاف مراد المستدل والمعترض، حيث أنّ مراد المستدلّّّ هو الاستدلال بمجموع ما يفيد المطلوب، لأنّ الصغرى المحذوفة لفظا مذكورة تقديرا. أمّا مراد المعترض فإنّ الصغرى عنده محذوفة والكبرى المذكورة وحدها لا تنتج فلا تفيد المطلوب، ومنه يتجلى تتباين المرادين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الجزائر في: 17 رمضان 1415هـ
الموافق: 17 فيفري 1995م
أ/ محمد علي فركوس
1 - "الموجب" بفتح الجيم، ومعناه: "القول بما أوجبه دليل المستدل"، أما "الموجب" بكسرها فهو: "الدليل المقتضي للحكم" (البحر المحيط للزركشي: 5/ 297).
2 - أنظر تفصيل الأصوليين لهذا المبحث في:
المعتمد لأبي الحسين: 2/ 821، أصول الشاشي: 346، المعونة في الجدل للشيرازي: 246، المنهاج للباجي: 173، الجدل لابن عقيل: 60، البرهان للجويني: 2/ 973، المنخول للغزالي: 402، روضة الناظر لابن قدامة: 2/ 395، الإحكام للآمدي: 3/ 170، البحر المحيط للزركشي: 5/ 297، إرشاد الفحول للشوكاني: 228، المذكرة للشنقيطي: 308.
3 - المستصفى للغزالي: 2/ 249.
4 - نزهة الخاطر العاطر لابن بدران 2/ 346
5 - أنظر: روضة الناظر: 2/ 395، إرشاد الفحول للشوكاني: 228.
6 - أنظر: الإيضاح في علوم البلاغة للخطيب القزويني: 532 - 536، شرح الكفاية البديعية للصفي الحلي: 96.
7 - أنظر: لسان الميزان لابن حجر: 4/ 246، طبقات المفسرين للسيوطي: 72، بغية الوعاة للسيوطي: 345.
8 - الإيضاح للقزويني: 533، شرح الكافية للصفي الحلي: 96.
9 - جزء من آية 8 من سورة المنافقون.
10 - جزء من نفس الآية السابقة.
11 - أنظر: البحر المحيط للزركشي: 5/ 2??، شرح الكوكب المنير للفتوحي: 4/ 340، الإبهاج للسبكي وابنه: 3/ 132.
12 - انظر البحر المحيط للزركشي:5/ 2?8،إرشاد الفحول للشوكاني 288
13 - المنهاج للباجي: 173.
14 - المصدر السابق نفس الصفحة، المعونة للشيرازي: 246/ 247.
¥