الكون, أما بخصوص أركان الأخلاقية الإسلامية فتستند إلى لغة صوفية شفافة و منتجة وذلك بإعادة الاعتبار لمفهوم الميثاق الأول والأخلاق الكونية واستخدام دقيق لميراث عميق مثل "شق الصدر" و"الأخلاق العمقية" و"أخلاق التطهير" و"محسوسية القبلة ومعقولية التعبد" وأخيرا "الأخلاق الحركية", ويجتهد المفكر طه عبد الرحمن في بناء فلسفة أخلاقية إسلامية بواسطة المفاهيم السابقة مستحضرا المسلمات الأساسية في نقد واقع الحداثة الغربية وهي: مسلمة لا إنسان بغير أخلاق ومسلمة لا أخلاق بغير دين, ويصل في نهاية النقد إلى أن الأخلاق الإسلامية أخلاق كونية عميقة حركية, مقابل الأخلاق المحلية السطحية و الجمودية, التي تولدت بفعل سيادة الحضارة الحديثة القائمة على ضرب محاصرة متعددة الأوجه والمظاهر على الإسلام, وتتمثل هذه المحاصرة في عدة مظاهر, الأولى: محاصرة خارجية ترى في الإسلام عملا إرهابيا وخطرا حضاريا وذلك بسبب توظيفه في مقاومة الغزو الاستعماري والتصدي للمركزية الحضارية الغربية, والثانية: محاصرة داخلية تتمثل في مواقف الأنظمة والدول السائدة من العودة إلى الإسلام, حيث تمارس مختلف أشكال التضييق على الحركات و الجمعيات والمنظمات و الجماعات التي تدعو إلى الرجوع إلى الإسلام, والثالثة: المحاصرة الذاتية وتتمثل في وقوع بعض الدعاة في الاقتباس والإتباع وانتقال العمل من المجال التنويري الرباني, وهو مجال التربية الخلقية إلى مجال التسييس و التسيس بدل "التأنيس" الذي يقوم على السياسة الأخلاقية التي لا تربط التخلق بحيازة السلطة, وحصار ذاتي آخر يتمثل في شيوع العقلانية التجريدية التي تقدم النظر على العمل و تقتصر في نظرها المجرد على الضال المتلبس بدلا من التوسل إلى المعرفة بالعقل المؤيد, ويرى عبد الرحمن أن السبيل الأمثل لرفع ضروب المحاصرة المفروضة على الإسلام يكون عن طريق التوسل بالأساليب التنويرية و التحررية التي ينتج عنها تمام العمل و تحقيق الاكتفاء.
عمل طه عبد الرحمن على توسيع مفاهيمه السابقة في كتابه الأخير "روح الحداثة, المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية", وشن حملة واسعة على دعاة الحداثة والتقليد, وبين بما لا يدع مجالا للشك الأسس الشنيعة التي تحكم تقليد الحداثيين, فإذا كان التقليديون يقلدون المتقدمين, فإن الحداثيين يقلدون المتأخرين, بل إن تقليد الحداثيين بحسب عبد الرحمن يبدو أشنع من تقليد التراثيين, لأن الحداثة والتقليد حسب تعريفهم ضدان لا يجتمعان, في حين أن التراث و التقليد بموجب تقريرهم صنوان لا يفترقان, ويسعى في مجمل أطروحاته إلى أن يبصّر الحداثيين بمدى التقليد الذي أصابهم, وحرمهم من فتح فضاء الإبداع, وذلك عن طريق التفريق بين "روح الحداثة" التي يجب تحصيلها وتوصيلها وحفظها, و"واقع الحداثة" الذي لا إشكال في تركه و تجاوزه إلى واقع غيره لا يقل عنه حداثة, وبالنسبة للتراثيين يطمح بأن يخرجوا من رق التقليد المعوق, بفتح فضاء الاجتهاد, ولا يتم ذلك إلا بسلوك طريق تطبيق روح الحداثة على مقتضى التداول الإسلامي التي تجتمع فيها مبادئ الرشد والنقد والشمول والذي يسمح بتجاوز القراءات الحداثية المقلدة التي انبنت على الاستنساخ وليس الاستكشاف وعملت على تعطيل الإبداع الموصول، فالخطط الانتقادية المنقولة من واقع الحداثة جهدت في محو "القدسية" و"الغيبية" والحكمية" من النص القرآني، أما الخطط الانتقادية المأصولة والموصولة بروح الحداثة فتعمل على تثبيت " تكريم الإنسان" و "توسيع العقل " و"ترسيخ الأخلاق " , وقد تمكن فيلسوفنا الكبير من اختيار نماذج متميزة لتطبيقاته, موضحا كيفية نفاذ هذه الروح في المجتمع الإسلامي كما نفذت في المجتمع الغربي, وبين أن التطبيق الإسلامي يسمو بروح الحداثة بما لا يسمو بها تطبيقها الغربي بسبب حفظها من الآفات الأخلاقية واتساعها لتجليات إنسانية لهذه الروح.
ـ[أبو حاتم يوسف حميتو المالكي]ــــــــ[27 - 10 - 07, 10:11 م]ـ
رغم أنه لا عمل بشري يخلو من هنات، فحقيقة الأمر أن الدكتور طه عبد الرحمن وقف سدا في وجه الحداثيين الذين هم كالمنبت، ويكفي أنه استطاع خلال مدة قصيرة أن يطمس معالم المكر الذي مكره محمد عابد الجابري في كتاباته عن إعادة تشكيل العقل العربي وحديثه عن التراث والتجديد والحداثة، بذلك يكون الدكتور طه عبد الرحمن لملامح منهج فلسفي مستقبلي سيكون له أنصار كثر لكونه يجمع بين البعد الأصيل للفكر الإسلامي ثم الفكر الإنساني، وبين روح التطوير الذي لا يتناقض والأصول الدينية والقيم الإنسانية التي لا تمت بصلة إلى روح الحداثة الخبيثة التي تهدف إلى القطيعة مع القيم في طوباوية ماكرة مغلفة بالعسل وفي لبها السم الزعاف، ولا أدري من أين أتى هذا الغباء الذي يمتلكه الحداثيون العرب المنسوبون - تجاوزا - إلى الإسلام، ما دام رواد الحداثة أنفسهم الذين قضوا منهم والذين لا زالوا ينتظرون قد قطعوا بشكل نهائي مع الحداثة باعتبارها مرحلة ومرت، فهم الآن ينظرون إلى مرحلة ما بعد الحداثة التي أسس لها ألكسيس كاريل في أواخر الستينيات من خلال كتابه: " الإنسان ذلك المجهول ".
إن الدكتور طه عبد الرحمن رغم كل ما قد يؤاخذ عليه يبقى مع ذلك إنسانا محافظا ملتزما عقائديا وأخلاقيا وعملا بحيث إن من يعرفه يجد تلازما حقيقيا بين فكر الرجل وتصوراته وبين ممارساته العملية.
¥