فبراعة الاستهلال، وحسن الابتداء، وجمال المطلع متحقق بذلك النجم الذى هوى، مهما كان المراد به. ويكفى أن الحق سبحانه حين يقسم فى القرآن بشئ من مخلوقاته لا يقسم إلا بأشرفها، كالطُّورَ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ، وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ، وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ،، وغيرها مما أقسم الله به فى كتابه العزيز، وهو لا يقسم بها إلا على أمر عظيم رهيب، يرج القلب رجا ويهز النفس هزا.
والرائع حقا: أن الحق سبحانه ختم سورة (الطُّور) التى تسبق سورة النجم فى المصحف الشريف بقوله: (وَإِدْبَارَ النُّجُومِ) [الآية 49] وافتتح هذه بقوله: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى)، ثم تجئ فى المصحف بعدها سورة القمر .. يا له من حسن التناسق!
هذا وتبلغ براعة الاستهلال ذروتها، لو قلنا - مع جعفر الصادق -: إن المقصود بالنجم الذى هوى: هو الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، إذ نزل من السماء ليلة المعراج بعد الصعود إليها. وهو تفسير له ما يؤكده فى القرآن الكريم، فالقسم بالحبيب هنا كالقسم به فى قوله تعالى: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) الحجر: 72، أى «وحياتك وعمرك وبقائك فى الدنيا إنهم فى ضلالتهم يلعبون» ([45]).
قال ابن قيم الجوزية: «أكثر المفسرين من السلف والخلف - بل لا يعرف عن السلف فيه نزاعا - أن هذا قسم من الله بحياة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا من أعظم فضائله أن يقسم الرب عز وجل بحياته، وهذه مزية لا تعرف لغيره ....... وما أقسم الله تعالى بحياة نبى غيره ..... ولا ريب أن عمره وحياته صلى الله عليه وسلم من أعظم النعم والآيات، فهو أهل أن يقسم الله به» ([46]).
وتأسيسا على ما قاله ابن القيم يصح تفسير النجم الذى هوى بأنه الحبيب الذى هوى وأحب ربه، وتعلق قلبه بالأفق الأعلى، فتحقق له ما أراد، فى ليلة الإسراء والمعراج. ويكون فى القسم به تشريف عظيم ومقام رفيع وجاه عريض، كما قال ابن كثير ([47]).
ويكون القسم به فى مطلع سورة النجم صورة بديعة من صور براعة الاستهلال التى نراها فى مفتتحات السور القرآنية.
لقد كانت ليلة الإسراء والمعراج ليلة نورانية من أعظم الليالى فى حياة محمد .. ذلك النجم الإنسانى العظيم، والنور المتجسد لهداية العالم فى حيرة ظلماته النفسية.
لقد حار المفسرون - والكلام هنا للمرحوم مصطفى صادق الرافعى - فى حكمة ذكر (الليل) فى آية الإسراء من قوله تعالى:
(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا)؛ فإن السرى فى لغة العرب لا يكون إلا ليلاً.
"والحكمة هى الإشارة إلى أن القصة قصة (النجم) الإنسانى العظيم الذى تحول من إنسانيته إلى نوره السماوى فى هذه المعجزة، ويتمم هذه العجيبة أن آيات «المعراج» لم تجئ إلا فى سورة: (النجم).
"وعلى تأويل أن ذكر (الليل) إشارة إلى قصة النجم، تكون الآية برهان نفسها، وتكون فى نسقها قد جاءت معجزة من المعجزات البيانية، فإذا قيل إن نجماً دار فى السماء، أو قطع ما تقطعه النجوم من المسافات التى تعجز الحساب، فهل فى ذلك من عجيب؟ وهل فيه شك أو نظر أو تردد؟ وهل هو إلا من بعض ما يسبح الله بذكره؟ وهل يكون إلا آية اتصلت بالآيات التى نراها اتصال الوجود بعضه ببعض؟
"وأنا ما يكاد ينقضى عجبى من قوله تعالى: (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا). مع أن الألفاظ كما ترى مكشوفة واضحة، يخيل إليك أن ليس وراءها شئ، ووراءها السر الأكبر، فإنها بهذه العبارة نص على إشراف النبى ( e) فوق الزمان والمكان يرى بغير حجاب الحواس مما مرجعه إلى قدرة الله لا قدرة نفسه، بخلاف ما لو كانت العبارة: (ليرى من آياتنا) فإن هذا يجعله لنفسه الاعتراض ولا تكون ثم معجزة.
"وتحويل فعل (الرؤية) من صيغة إلى صيغة كما رأيت، هو بعينه إشارة إلى تحويل الرائى من شكل إلى شكل كما ستعرفه، وهذه معجزة أخرى يسجد لها العقل، فتبارك الله منزل هذا الكلام!
¥