فأنت ترى الرسم العثمانى ينفرد فى هذه الآيات الثلاث برسم (مالهذا، وما لهؤلاء) بما يخالف قواعد الإملاء، حيث رسمت لام الجر مفصولة عن الهاء من إسم الإشارة (هذا وهؤلاء) مع أن قواعد الإملاء العربية تجيزوصلها. والله أعلم لتشابه المقام فى هذه المواضع الثلاثة دون غيرها.
ولو رحنا نبحث عن السر من هذا الرسم فى الإية الأولى، لوجدنا انه مرتبط بمقام الآية أتم ارتباط، لان المقام - هنا - مقام تصوير لبعض ما فى اليوم الآخر من أهوال، وكيف أنه (يوم عسير. على الكفارين غير يسير) فقد جاءت حالة المشركين ناطقة تماماً بما يلاقونه من أهوال وصعاب، فها هم أولاء حين رأوا كتابهم وقد جمع كل ذرة مما صنعته أيديهم، وأيقنوا لا محالة أنهم صائرون إلى وضع لا يحسده عليهم فيه أحد. حين تملك منهم هذا الشعور اهتز كيانهم، وارتعدت فرائصهم، وأصبحوا لا يقدرون حتى على مجرد الكلام، فها هى ذى أفواههم تتلجلج، وأنفاسهم تهتدج، وصدورهم تنبسط وتنقبض، وأفئدتهم هواء. نراهم - وشأنهم هذا - لا يستطيعون الكلام كما كانوا يستطيعونه فى الدنيا، بل هم يتهتهون، وتخرج كلماتهم من أفواههم متقطعة كأنفاسهم المرتعشة من أثر الصدمة فيقولون: (ما) ولا يستطيعون التكملة، بل يتوقفون هتيهه، ثم يقولون: (لـ) ثم تنحبس أنفاسهم لحظة، ثم يعاودون فيقولون: (هذا) ثم يكملون (هذا الكتاب لا يغادر ... إلخ) ولكنه العدل حيث (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا).
وهكذا صور الرسم العثمانى - بهيئته هذه - موقف المشركين يوم القيامة أبدع صورة وأبرع تجسيد. وهذا من الإعجاز فى الرسم العثمانى وجماله فى المصحف الشريف.
وخذ شاهداً ثانياً من الرسم العثمانى لكلمة (سنة) بضم السين وتشديد النون، فقد وردت فى المصحف الشريف بالتاء المربوطة إلا فى ثلاثة مواضع جاءت مكتوبة بالتاء المفتوحة.
فمن الآيات التى وردت فيها (سنة) مكتوبة بالتاء المربوطة قوله تعالى: (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا) الإسراء: 77، وقوله تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) الفتح: 23
أما الآيات التى وردت فيها بتاء مفتوحة فهى:
1 - قوله تعالى: (وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) الأنفال: 38
2 - قوله تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ) غافر: 85
3 - قوله تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا* اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا).
(فاطر:42،43)
وذلك - والله أعلم - لتشابه به المقام فى الثلاثة دون غيرها.
واذا وقفنا مثلا عند الحكمة من رسم لفظة (سنت) بالتاء المفتوحة فى سورة فاطر، فإننا نجد كتابتها على هذا النحو مرتبطة بمقام الآية أتم أرتباط، فها هم أولاء المشركون وقد أخذ القرآن يلح عليهم ويضرب لهم الأمثال، عساهم أن يفيقوا ويعودوا الى رشدهم، فحياتهم على ما هى عليه ضرب من الوهم والعناد والباطل والغرور.
ولكن ماذا تقول فى الصلف والتكبر الذى يجعلهم يقولون: (لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) إنهم يطلبون الرسول والرسالة، وهذا أمر طبيعى ولكن أن يأتى الرسول ومعه الرسالة الناطقة الواضحة، البينة الشافية، ثم يعودون إلى غيهم وضلالهم فذلك أمر لا يقبله عقل ولا يماشيه منطق، بل هو خروج عن المألوف، حيث لم يزدهم إرسال الرسول إلا نفورا اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ) ولكن وبال ذلك كله عليهم وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) ... هل نسوا أو تناسوا ما حاق بالأمم السابقة رغم إنذارنا المتكرر ووعيدنا المتجدد لهم؟ إن ذلك لخروج عن الفطرة ونشاز عن المألوف. فماذا ينتظرون؟
¥