هذا الغنى الدلالي للكلمة استثمره الشاعر ببراعة فائقة:
لا نعني أن الشاعر قد قصد هذه المعاني كلها-فالمعنى في بطن الشاعر كما يقال-لكن نقصد أن لكلمة شعار ظلال إيحائية تنم عن دلالات مقصودة أو غير مقصودة لكنها متسقة مع أجواء القصيدة ..
فبروز الثعلب في شعار هو بروز للموت،ما الاغتيال إلا الغاية المرادة.
والثعلب من جهة أخرى محارب قناص له خطة واستراتيجية وهدف ..
والثعلب مخادع يخفي حقيقته – أي شعر جلده-في ثوب .. والثوب لغة موجهة للناس مبنية على الإخفاء والستر والتمويه ..
ومن هنا نلمس ذلك التشاكل الدلالي الجميل بين فعل برز واسم شعار .. حيث جدلية الخفاء والتجلي متضمنة في الكلمتين.
فمشى في الأرض يهذي ويسب الماكرينا:
لم يحن بعد أوان الإشارة –عن بعد أو عن قرب- إلى المأرب والغرض ... فالتعجيل بذلك قد يفسد الخطة كلها .. فلا بد أولا من "تحسين الصورة" فليس من اليسير على الناس أن ينسوا في يوم واحد ما ترسب في أذهانهم عبر قرون من اقتران المكر بالثعلب ..
لا بد من التجميل ..
الثعلب الآن لا يتكلم مع أحد .. يتكلم مع نفسه فقط مشغول بها .. ولايشعر بالآخرين:يهذي ... يتمتم في عالمه الخاص .. مثل ذلك الدرويش الصوفي (شوقي يستحضر هنا بقوة صورة الدرويش- وما كان أكثرهم بمصر-فالشعار هو الخرقة المقدسة والهذيان صورة عن التمتمة بالأوراد والأذكار والسب والشتم صور عن الشطحات المسموعة القوية بين الحين والحين)
يا عباد الله توبوا فهو كهف التائبينا:
الهذيان أصبح الآن كلاما ..
والتمتمة أصبحت نداء ودعوة .... فبعد إصلاح النفس يتعين إصلاح المجتمع ..
هذا الثعلب له منهج دعوي محكم .. !!
بعد تسويق الصورة الحسنة ... يشرع في التخطيط ..
هذا الثعلب له مكر منهجي مبدع!!
توبوا .... أمر عام يمهد به ل:
ازهدوا في الطير ... أمر خاص مشتق من التوبة يمهد به ل:
واطلبوا الديك .... هذا هو بيت القصيد .. !!
هل قدرتم النفس المنهجي للثعلب ... والصبر أيضا:
هذيان فقط ... أولا، سب بمناسبة وبغير مناسبة للماكرين ... ثانيا،
دعوة عامة إلى التوبة ثالثا، دعوة خاصة إلى الزهد في التنعم بأكل لحم الطيور رابعا، دعوة إلى صلاة الفجر -ومن هو مؤهل للأذان أكثر من الديك-خامسا،
بلغ الثعلب عني عن جدودي الصالحينا
عن ذوي التيجان ممن دخل البطن اللعينا ..
لله در هذا الديك .. !
ما نجاه من الموت المحقق إلا منهج المحدثين!!!
عني .... عن جدودي .... عن ذوي التيجان ..... هذا هو السند.
سند كالشمس كما ترون .. فالجدود صالحون .. وجدودهم أمراء وملوك (ذوو تيجان)
والمتن،ما تقولون فيه .. إلا يقطر حكمة وعقلا وتجربة!
"مخطئ من ظن يوما أن للثعلب دينا"
رحم الله شوقيا كأنه قال:
لا نجاة إلا بالاستماع إلى صوت السلف ..
أيكون الديك سلفيا .. والثعلب حداثيا!!
أما رأيتم الديك كيف يعتز بأجداده وحكمتهم .. أما رأيتم الثعلب يتبرأ من ماضيه ويحاول أن يسدل عليه ستارا .. قائلا: نحن أبناء اليوم!!!
ـ[الحادرة]ــــــــ[01 - 01 - 08, 09:46 م]ـ
أعزك الله يا أخي، ما أجمل هذا الانتقاء و هل هو اسقاط على أهل زماننا؟ هذا مللمسته من قراءتك النقدية والله أعلم
ـ[أبو عبد المعز]ــــــــ[01 - 01 - 08, 10:59 م]ـ
أعزك الله يا أخي، ما أجمل هذا الانتقاء و هل هو اسقاط على أهل زماننا؟ هذا مللمسته من قراءتك النقدية والله أعلم
بارك الله فيك ..
أفضل عبارة" تنزيل على أهل زماننا"بدل إسقاط ..
فلا يخفى عليكم أن قصيدة شوقي من نوع شعر الحكمة والمثل .. والمثل المضروب مثل العملة المسكوكة يمكن تداولها في كل مناسبة .. فالثعلب والديك ليسا ممثلين بقدر ما هما دوران .. ويمكن أن يسندا إلى ممثلين مختلفين بشرط أن يكون هناك تلاؤم بين فكرة الدور وشخصية الممثل ..
قد يكون في ذهني شوقي ثعلب بعينه وديك بعينه ... لكنه من جهة أخرى يصيغ حكمة ويضرب مثلا ويرسلهما للتداول بين الناس .. فالتعميم هو مقصده الأول.
من جهة أخرى لا أرى مانعا أن يكون شوقي قد قصد بالثعلب الحداثي .. فلا تنزيل ولا إسقاط .. فشوقي عاش قريبا من زمننا .. وجذور جل الحداثيات المعاصرة نبتت في زمن شوقي ... يكفي لفهم ذلك الرجوع إلى الكتاب القيم جيدا للدكتور محمد محمد حسين-رحمه الله تعالى-:الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر .. حيث نجد شوقيا -رحمه الله-في المناخ الفكري والمنهجي العام ...
بالمناسبة أنصح بقراءة هذا الكتاب ..
ـ[أبو عبد المعز]ــــــــ[08 - 01 - 08, 01:26 ص]ـ
7 - هل تذوقت زهد النواسي .. ؟
أيا رُبّ وَجهٍ، في التّرابِ، عَتيقِ،
ويا رُبّ حُسنٍ، في التّرابِ، رَقيقِ
ويا رُبّ حزْمٍ، في التّرابِ، ونجدة ٍ،
ويا رُبّ رأيٍ، في التّرابِ، وَثيقِ
أرى كل حيٍّ هالِكاً وابنَ هالِكٍ،
وذا نَسَبٍ في الهالكينَ عَريقِ
فقُلْ لقرِيبِ الدّارِ: إنّكَ ظاعِنٌ
إلى مَنزِلٍ نائي المَحَلّ سَحيقِ
إذا امتَحَنَ الدّنيا لَبيبٌ تكَشّفَتْ
لهُ عَنْ عَدوٍّ في ثِيابِ صَديقِ
1 -
عالم متضاد متنافر:
الدنيا تخفي العداوة وتظهر المودة ..
الحي يأتي من الهالك ..
وقريب الدار سيكون بعد حين بعيد الدار ..
ثم هذا التراب الرخيص المداس بالأقدام .. هو مصير كل نفيس من الإنسان:
-النفيس الجسمي: الوجه والحسن.
-النفيس الخلقي: الحزم والنجدة.
-النفيس العقلي: الرأي والحكمة.
القصيدة إعلان للمآل:
مآل الجمال إلى التراب ..
ومآل الحي أن يلتحق بالهالكين من أسباب وجوده.
ومآل الجار أن يرحل ..
ومآل هذا الجلد الوديع الحملي من الدنيا أن يبهت ويتلاشى ليكشف عن مخالب السبع وأنياب الذيب. .
¥