تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

الخضرة في الفضاء؛ فالسّمتان اللّفظيّتان معاً متشاكلتا العَلاقةِ الدّلاليّة، بالإضافة إلى ما كنّا رأينا من تشاكلهما التلاؤميّ من قبل. وأمّا التّغيّب والتّسلّب فهما يمثّلان الانحصار، ذلك بأنّ التغيّب يعني وقوع الشيء خارج الرؤية، وربما العلم، فهو في حُكم المنحصر. ومثله معنى التّسلّب الذي يعني هنا تساقط الأوراق ويَبَسِها وتلاشيها في الفضاء السحيق، فهي في حُكم المنعدم. وينشأ عن هذين المعنييْن تشاكلٌ يُقرأ انحصاريّاً. غير أنّنا بتعويم السّمات اللّفظيّة في إجراء التشاكل، انتشاراً وانحصاراً، يغتدي كلّ الكلام متشاكلاً، إمّا على سبيل تكرار الألفاظ، وإمّا على سبيل مُلاءَمِتها.

وحين نعود إلى متابعة السّمات اللّفظيّة التيس وقع منها نسْج الكلام السعيد نلفيها دالّةً على ذلك، تدرُج في مُضْطَرَبِها، وذلك كالشمس، والظهور، والإشراق، والإيراق ... وأمّا السّمات اللفظيّة الدّالة على نقيضها، فلم يكون ذِكْرُها إلاّ نفياً لها لتبرير وجود ألفاظ السعادة والأمل والإشراق ...

وعلى أنّا لا نودّ أن نحلّل النسائجَ الأربعَ الباقية، لأنّنا لو جئنا على ذلك لَمَا أمِنّا أن يمتدّ حجم هذه الدراسة إلى شكل كتاب، وذاك ما لم نرد إليه؛ وإنّما نريد أن ننتقل إلى كلام آخر لمحمد البشير الإبراهيمي، لننظرَ هل يختلف عمّا استشهدنا به في هذا الموطن ... ولعلّ القارئ إن تقبّل ما نهضنا به من إجراءات التّحليل أن يستطيع النّسْج عليه إن شاء، ولو على سبيل المحاكاة ...

وقبل أن ننزلق إلى الحديث عن لغة الإبراهيمي حين يحزن، نودّ أن نقف وقفة أخرى، عند كتابة أخرى، حين يستفزّه السرور، ويستخفّه الاغتباط؛ وذلك في كلمة كتبها عن الملك محمد الخامس عام 1948 تقديراً لمواقفه الوطنيّة من أجل استقلال بلاده. ولو جئنا نقرأ نفسيّة الإبراهيميّ التي حملتْه على أن يكتب ما يكتب، بالطريقة اللّغويّة الدّافقة التي كتب بها عن تلك الشخصيّة الكبيرة، لزعمْنا أنّ الجزائر يومئذ كانت تئنّ تحت أغلال الاستعمار، فلم يكن لها زعيمٌ مسلَّم، ولا قائدٌ محنَّكٌ، يُقرّ له الجميع بالفضل والسَّبْق، بل كانت الجزائر أحزاباً متصارعة، وأهواءً متنازعة، والشعبُ يئنّ تحت الذّلّ، ويرسف في قيود المهانة الاستعماريّة، والأملُ لا يزال بعيداً في التّخلّص من بلايا الاحتلال الغاشم، والأجنبيّ الجاثم؛ فلمّا جاء يكتب عن الملك محمد الخامس، كأنّه جاء يكتب عن الأمير عبد القادر، أو عن أيّ زعيم كبير يمتلك قوّة التحكّم وفرْض الشخصيّة والموقف في الوطن، فأسقطه على الملك إسقاطاً ... فهو في هذه الكلمة كان كالمتنبي، لا ينبغي أن يؤْخَذَ كلامُه على ظاهره بالبساطة التي ينظر بها السّذّجُ إلى كتابات الكتّاب؛ ولكنّها كلمة كُتِبت الْتِماساً لرجل كبير في الجزائر، أو حتّى في المغرب العربيّ يومئذ، يقود الأمّة، ويخلّصها من الذّلّ والغُمّة ... وليس معنى كلّ هذا أنّ محمدا الخامس لم يكن أهلاً لهذا التقريظ، ولا جديراً بهذا التّقدير؛ فقد كان وطنيّاً كبيراً، وضحّى بعرشه من أجل وطنه، وهو شأن قلّ أن يقوم به الرؤساء بلْهَ الملوك؛ ولكنّ الشيخ كان في نفسه ما زعمْنا، فخاطب محمداً الخامس، من حيث كان يبحث هو، في الحقيقة، عن محمّدَيْن خامسَيْنِ أحدِهِما في المغرب، وأحدِهما الآخَرِ في الجزائر، فكتب ما كَتب ...

وأمّا حين نأتي لنبحث في شأن الطريقة النسجيّة التي كان يدبّج بها لغته حين يستفزّه السّرور، فإنّها في الغالب تحتفظ بعامّة الخصائص التي رأينا، فالإبراهيمي حين تستخفّه السعادة، أو حتّى حين يستفزّه الغضب، تنثال عليه العربيّة انثيالاً، فينسج منها لوْحاتٍ تكون أطواراً كالشعر أو أجملَ منه ... وللّذِين سيدّعون أنّ بعض ما سنستشهد به مجرّد أسجاع، نقول لهم: لا، واللّه! ما كان الإبراهيميّ يبحث عنها فيتكلّفها، ولا كان يلتَمسها فيتصنّعها، كبعض ضعفاء الكتبة في العهود المنحطّة من تاريخ الأدب العربيّ، ولكنّ الرجل كان يُمْسك بمزبره، ويصرِف وهْمه إلى الكلام، فإذا الألفاظُ تنهال عليه انهيالاً، وإذا المعاني تنثال عليه انثيالاً، وإذا اللّغةُ تُقْبل عليه أرْسالاً أرسالا، كما كان الجاحظ يعبّر في وصْف الخطيب العربيّ حين كان يَصْرِف وَهْمَه إلى الكلام فيخطبُ النّاسَ في المآقط، ويكلّمُهم في المحافل ... فكأنّ الإبراهيمي

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير