مشمولٌ في أولئك العرب الفصحاء البلغاء الذين كان يعنيهم الجاحظ، في مقالته، حقّا ... ولأولئك نقول، تارة أخرى: إنّه لا سَواءٌ كاتبٌ يذهب إلى ألفاظِ اللّغة فيراودُها عن نفسها، ويخفِض لها جناح الذّلّ من الاستخْذاء، وهي عليه، مع ذلك، متأبّية متدلّلة؛ وكاتبٌ آخرُ اللّغةُ هي التي تُقْبل عليه لتُغْرِيَه بها، وتتمثّلُ له لتدعُوَه إليها، وتَزْدَلفُ منه لترغّبَه فيها، فتتزيّنَ له متبرّجةً، وتتجلّى له متعطّرةً متكسّرةً ... فشتّانَ، إذن، بينَ الكاتبَيْن!
فلا عجبَ أن يعبّر الإبراهيميّ عن وجدانه الطّافح وهو يتناول شخصيّة محمد الخامس على نحو ما يأتي:
«وذِكْرَياتٌ من المجدِ التّليدِ تُثار،
وآفاقٌ من الفخْر الطريف تُنار؛
وسِمَاتٌ من مَخايِل البطولةِ تُشْهَر،
وصفحاتٌ من تاريخ العظمة تُنْشَر؛
ولمحاتٌ من الشَّرَف العلويّ الفاطميّ تُشِعّ، فتَشيع،
ونفحاتٌ من الغُرّ -الجلائل، من أعمال الأوائل-: تضوع، وتَذيع؛
وذخائرُ، من أخلاق الطّيّبين الأخايِر: تُجْبَى لوارِثِها؛
ومَفاخرُ، ممّا ترك الأوّلُ للآخِر: تُجْنَى لِهَمَّامِها وحارِثها15؛
وصورٌ من عِزّ الْمُلْك تُجْلَى، وسُوَرٌ من مكارم الأبوّة تُتْلَى؛
وشمائلُ من باني البيتِ إسماعيلَ تجلّتْ في محمد».16
نلاحظ أنّ الإبراهيميّ كأنّه يريد أن يرسم لوحة زيتيّة آسرة، لا أنّه يكتب كلمة أدبيّة مزخرَفة؛ فهو يضع ألواناً معينة يمزجها بألوان معيّنة أخرى، حتّى تنسجمَ وتتناسق فيما بينها. من أجل ذلك تراه يبني ما نطلق عليه «النسائج» فيعرضها لقارئه ألواحاً ألواحاً، وكأنّه يكتب مفاتيح من أنغام الموسيقى، لا ألفاظاًَ من اللّغة، فتتناسق وتتناغم متتابِعةً ومتوازية ومتقابلة معاً، كما يتجسّد ذلك من خلال هذا الجدول المبيِّن أدناه:
تثار
التليد
المجد
من
وذكريات
تُنار
الطريف
الفخر
من
وآفاق
تُشهَر
البطولة
مخايِل
من
وسِمات
تنشَر
العظمة
تاريخ
من
وصفحات
فالكلام، في هذه اللّوحة، مقدَّر بالتقدير، ومفصَّلٌ بالمقصّ القلَميّ القدير؛ فكلّ سِمَة لفظيّة تقابل صِنْوَتَها: فهناك قيم تشبه القيم الرياضيّاتية تتوارد في هذا الكلام على سبيل الانسجام: (أ+ ب+ ج+ د+ هـ)، ثمّ تتكرّر القيم نفسُها. ولا يوجد في إحدى النّسيجتين الاِثْنتين سمةٌ لفظيّة تزيد، أو تنقص! فكأنّنا نقرأ شعراً، لا نثراً فنّيّاً. فاللفظة الواردة نكرةً تقابلها لفظة نكرة أخرى، على سبيل التعاقب والتوازي معاً: (وذكرياتٌ؛ وآفاقٌ؛ وسِمَاتٌ؛ وصفحاتٌ؛ ولمحاتٌ؛ ونفحاتٌ؛ وذخائرُ؛ ومفاخرُ؛ وصُوَرٌ؛ وسُوَرٌ؛ وشمائلُ).
ثمّ تعقبها تشكيلات نسْجيّة أخرى متقابلة متماثلة:
من المجد التليد، من الفخر الطّريف؛
من مخايل البطولة، من تاريخ العظمة؛
ولا تكاد عبقريّة النسْج تختلف بعد ذلك إلاّ قليلاً.
وهذا كلّه والشأن منصرف إلى النسج الإيقاعيّ الدّاخليّ، أمّا النسْج الإيقاعيّ الخارجيّ فهو دقيق إلى حدّ الميزان العروضي:
تُثارْ، تُنارْ؛ تُشْهَرْ، تُنشرْ؛ تَشيعْ، تَذيعْ؛ وذخائرْ، أخايِرْ؛ ومفاخِرْ، للآخِرْ؛ تُجْلَى، تُتْلَى.
أمّا ختْم اللّوحة بجملة دون إيقاع فكان مقصوداً به تفْريدُ الشخصيّةِ المتحدَّثِ عنها، فلا تكون جزءاً من سيرة الكلام لِلَفْتِ الانتباه، ولتكسير الإيقاع، وليس عجْزاً أو إِقصاراً عن الإتيان به.
وعلى أنّنا لا نريد أن نعرض لتحليل هذه اللّوحة الكلاميّة تحليلاً انتشاريّاً وانحصاريّاً، كما لا نريد أن نحلّلها في تشاكُلها وتبايُنها، مخافةَ أن يُفضي ذلك إلى تطويل نحن ملتزمون سلَفاً بعدم الوقوع فيه ... ولعلّ ما كنّا نهضنا به من تحليل للوحاتٍ كلاميّة سابقة، ممّا دبّج يراعُ الإبراهيميّ، أن يقدّم صورة مصغّرة للقارئ الكريم إن شاء أن يحاكِيَه أو ينسج عليه.
ـ[عبد القادر بن محي الدين]ــــــــ[07 - 01 - 08, 10:36 م]ـ
ثالثاً. لغة الْحَزَنِ والشَّجَن لدى الإبراهيميّ
¥