تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

لم يكن محمد البشير الإبراهيميّ أديباً كبيراً، ولا مفكّراً رصيناً، ولا سياسيّاً محنَّكا، ولا خطيباً مفوَّهاً، ولا راجزاً رُؤْبِيّاً، فحسْبُ؛ ولكنّه كان شهْماً كريماً، ووفيّاً أسِيفاً؛ فقد كتب عن كثير من الرجالات كتابةَ الوفيّ الصادقِ الودِّ. ولعلّ أصدق مدْحٍ لمآثر الرجال الكبار هو ما يكون حين يُتَوَفَّوْن. وذلك ما جاءه الإبراهيميُّ فأجرى قلمه السّيّالَ في مآثرِ طائفة من أخايِر الرجال، كان يعرفهم أو يصادقهم، فلمّا تُوُفُّوا –أو حتّى وهم أحياء- وفّى لهم الودّ، وأوسع لهم في المدح، وأكثر لهم من الثناء، ما كانوا له أهلاً؛ ومن أولئك الرجالاتِ محمدٌ بهجة البيطار، ومبارك الميلي، والملكُ محمد الخامس، والفضيل الورتلاني، وعبدُ الحميد بن باديس ...

ولم يكن الشيخ ابن باديس، بالقياس إلى الإبراهيميّ، صديقاً حميماً فحسب، ولا رفيقاً في النضال من أجل العروبة والإسلام فحسب، ولا ظهيراً في الاجتهاد والإصلاح فحسب، ولا زميلاً في الكتابات الإعلاميّة والأدبيّة فحسب؛ ولكنّه كان كلَّ ذلكم جميعاً. فلمّا توفَّى اللّهُ ابنَ باديس –في 16 أبريل 1940 - كان الإبراهيميّ منفيّاً في قرية آفلو فلم تسمح له الإدارة الاستعماريّة بالظَّعَنِ إلى قسنطينةَ لشُهُود تشييع جنازة الشيخ الفقيد، فزاد ذلك في أشْجَان الإبراهيميّ وحسراته، وحُرُقَاتِه ولَوْعاته. وجاءت الذكرى الأولى لوفاة ابن باديس والإبراهيميُّ لا يبرح رهينَ المنفَى في حيثُ كان، فكتب كلمةً ربما تكون من أجمل ما كتب الإبراهيميّ على وجْه الإطلاق؛ فقد كنّا أدرجناها في جنس المقامات، كما كان عدّها قبلنا الأستاذ محمّد الغسيري في تقْدِمته لها في «البصائر»؛17 ولكنّها، في الحقيقة، يمكن أن تندرج ضمن أنواع مختلفة من زُخْرُف القول، وأصناف متعدّدة من تدبيج الكلام، فهي فيها من خصائص الرسالة، بمفهومها في عهود العربيّة الزاهية، نفَسُها وفنّيّاتها؛ وهي فيها من جنس المقامة سجعُها ولغتُها؛ وهي فيها من جنس الشعر الرثائيّ إيقاعُه وبكائيّته، وعاطفتُه ووِجدانُه؛ وزادت على ذلك كلّه بأن اعتمدتْ سبيلاً في النّسْج تنهض على صنعةٍ تُعنَى بالْتماس الإيقاع التركيبيّ داخليّاً وخارجيّاً، على نحو طافح ...

ونودّ أن نتوقّف لدى فقرة من هذه الْبُكائيّة العجيبة، التي كتبها الشيخُ يرثي بها صديقه ورفيقه ابن باديس، لننظرَ كيف كان يكتب الإبراهيميّ حين تحزُن نفسُه على الأحبّة، ويشتدّ ألمه لفُقدان الأصحاب؛ بل حين كانت تَفيض عليه شآبيبُ الوِجْدان، وينهال عليه منها ما يطفَح به الفيَضان:

«يا قبر!

أيدري مَن خطَّك، وقارَبَ شطَّك: أيُّ بحرٍ ستضُمُّ شافتاك؟ وأيُّ معدِنٍ ستَزِنُ كفَّتاك؟ وأيُّ ضِرْغامَةِ غابٍ ستَحْتَبِلُ كفّتاك؟ 18 وأيُّ شيخٍ كشيخِك، وأيّ فتىً كفَتَاك؟ فويحَ الحافِرين ما ذا أوْدعُوا فيك حين أودعوا؟! ( ... ) إنّهم لا يَدْرُون أنّهم: أوْدعُوا، بنَّاءَ أجيالٍ في حُفْرة، وودَّعُوا، عامرَ أعمالٍ بقَفرة، وشيّعوا، خِدْنَ أسفار، وطليعةَ استِنفار، إلى آخرِ سَفْرة!

( ... ) قُولا لصاحب القبر عنّي:

- يا ساكنَ الضَّريح! نَجْوَى نِضْوٍ طَلِيح، صادرةٍ عن جَفْنٍ قَريح، وخافقٍ بين الضُّلوع جريحٍ؛ يتأوّبُه في كلّ لحظةٍ خيالُكَ وذِكْراك، فيَحمِلانِ إليه على أجنحة الخيال من مَسْراك، اللّهَبَ والرّيح؛ وتؤدِّي عنهما شُؤونُه الْمُنْسَربة، وشجونُه الملتهبة، وعليهما شهادة التّجريح.

إنّ مَن تركتَ ورَاك، لم يَحْمَدِ الكَرَى فهل حمِدْتَ كَرَاك؟ وهيهات: ما عانٍ كمُستريح!» 19

إنّا لنأسَف أشدّ الأسف أنّ مساحة هذه الدراسة لا تسمح بالإتيان بنصّ هذا الأثر الأدبيّ العجيب بجذاميره، هنا، لأنّ الاستشهاد بمجرّد فقرة منه، أو فقرتين اثنتين، قد لا يقدّم الصّورة الحقيقيّة لجماليّة هذا العمل الأدبيّ الكبير، وروعة هذا الأسلوب البديع، وتأجُّج عاطفةِ صاحبه، وعظَمة وفائه، بالقياس إلى الذي لم يُلْمِمْ عليه قَبْلاً ...

فالشيخ يخاطب رفيقين اثنين، كدأْب الشعراء العرب في الخطاب، ثمّ يحمِّلُهما رسالةً يَقْرَآنِها على الأصاحيب، ويقدّمانها إلى الثّاوي في الضريح، من مُحبّ طليح، بلغة الشيخ الحزين الجريح ... فيَصول ويجول، ويأتي بالدُّرَر البديعة التي لم نقْتَرئْ لها مثيلاً لدى معاصريه في المشرق والمغرب ...

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير