ولا يسلك الإبراهيمي في أسجاعه الطريقةَ المشرقيّة القائمة على المزاوجة بين خاتمتيْ جملتين متعاقبتين؛ ولكنّه يعمِد إلى طريقة قلّ أن رأينا لها مثيلاً في الكتابة الفنّيّة، فلم نكد نعثر لها على نظير حتّى في أسجاع «الذخيرة، في محاسن أهل الجزيرة»، وهو من أكبر الْمَعارض للكتابة المسجوعة في الأدب العربيّ على الإطلاق؛ فالإبراهيميّ لا يجتزئ بخارجيِّ الإيقاع، ولكنّه يغالي في الْتِماسه في داخليّ النّسْج، فإذا أنت لا تدري أَإِلى خواتمِ الْجُمَلِ كان يقصد، أم إلى داخلها كان يريد، أثناء بناء الكلام؟ وكأنّ هذه الطّريقة مستوحاةٌ من طبيعة الموشّحات الأندلسيّة التي برَع فيها لسان الدّين بن الخطيب وسَواؤُه من الوشّاحين الأندلسيّين؛ وذلك بالتّعويل تعويلاً كاملاً على الْتماس الإيقاع في داخل النّسْج وخارجه، لتغذيَة النّسْج باستمرار بما يجعل القارئ يوزّع عنايته بين الدّاخل والخارج فيتنازَعَانِهِ معاً فلا تستولي عليه الرّتابة التي يسبّبها السّجع التقليديّ الثقيل؛ وذلك كقول الإبراهيمي في مطلع هذه الكلمة، على الطريقة التي ارتأينا أن نفكّك بها نصَّه:
«سلامٌ:
يتنفّس عنه الأَقاحْ، بأزهاره وإيراقِهْ؛
ويبتسم عنه الصّباحْ، بنُوره وإشراقِهْ.
وثناءٌ يتوهّج به من عنْبر الشجَرِ عبيرُهْ،
ويتبلّجُ به من بدر التَّمامْ، على الرَّكْبِ الخابِط في الظَّلامْ، مُنِيرُهْ».20
فالشيخ، كما نستخلص من الفِقرة التي كنّا استشهدنا بها من قبل، يبدأ كلامه معوّلاً على حرْفِ الحاء في خواتِمِ جُمَله، وهي طريقة السجع التّقليديّة التي كانت جارية في بلاد المشرق. لكنّ طريقته المزدوجة في الْتماس الإيقاع لا تني أن تَتَنازَعَه فيتّخذَها له في الكتابة سبيلاً، كما يبدو ذلك من هذا التّفكيك الذي نمارسه على النّصّ، تارة أخرى، من أجل تِبْيان طريقة نسْج الكلام عند الشيخ الإبراهيمي:
1. يا ساكنَ الضريحْ، نَجْوَى نِضْوٍ طَليحْ:
صادرةٍ عن جَفْن قَريحْ، وخافقٍ بين الضلوع جريحْ؛
2. يتأوّبُه في كلّ لحظةٍ خيالُكَ وذِكْراكْ،
فيَحْمِلان إليه على أجنحة الخيال من مَسْراكْ:
اللّهَبَ والرّيحْ؛
3. وتؤدّي عنهما شُؤونُه الْمُنْسربَهْ،
وشجونُه الملتهبَهْ:
وعليهِما شهادةُ التّجريحْ؛
4. إنّ مَن تركْتَ ورَاكْ،
لم يَحْمَدِ الكَرَى فهل حمِدْتَ كَرَاكْ:
وهيهاتَ: ما عانٍ كمُسْتريحْ!»
فهذه اللّوحة الفنّيّة من الأنغام الملفوظة تنهض على إيقاعٍ خارجيّ ثابت، هو المقطع الصوتيّ: «ـِيحْ»، فنجده يتكرّر في النسائجِ الأربعِ فلا يتجانف عنها ولا يَرِيمُ؛ في حين أنّ النّسْج الإيقاعيّ الدّاخليّ تتنوّع أنغامه ليمنحَ الكلام رشاقةً وتجدّداً، ويُميطَ عنه الرّتابة والكَلال. فنجد النسيجة الأولى، وهي المركزيّة، تنهض على إيقاع داخليّ يتكوّن كلُّه من الإيقاع المركزيّ وهو «ـِيح» (الضرِيحْ + طَلِيحْ + قرِيحْ + جرِيحْ). في حينَ أنّ الإيقاعة الدّاخليّة، للنسيجة الثانية في اللّوحة المعروضة لتحليل جماليّة الإيقاع فيها، تتكوّن من المقطع الإيقاعيّ «آكْ» فيتكرّر مرّتينِ اِثنتينِ: (ذِكْرَاكْ + مَسْرَاكْ)، قبل أن يعودَ إلى نظام الإيقاع الخارجيّ وهو «ـِيحْ»، فيكون لفظ: «الرّيحْ». وأمّا النسيجة الثالثة فتنهض إيقاعتُها الدّاخليّة على مقطع «بَهْ»، فتتكرّر هي أيضاً مرّتين اثنتين: (الْمُنْسَرِبَهْ + الْمُلْتَهِبَهْ)، قبل أن يعود نظام الإيقاع الخارجيّ إلى سيرته الأُولى في اللّوحة الحائيّةِ الإيقاعِ الخارجيِّ، وهو «ـِيحْ» فإذا هو لفظ: «التَّجْرِيحْ».
وتعود سيرة الإيقاع الدّاخليّ إلى مقطع «آكْ» الذي يتواتر مرّتين اثنتين، وهو الحدّ الأدنى لتكوين إيقاعة نسْجيّة من اللّغة: (ورَاكْ + كَرَاكْ)، قبل أن يقع ختْمُ اللّوحة بالإيقاع الخارجيّ المتحكّم، وهو «ـِيحْ»، فيكون قوله: «كَمُسْتَرِيحْ».
ونلاحظ أنّ الإيقاع الخارجيّ لهذه اللّوحة العجيبة ينهض على ما يسمَّى في مصطلحات البلاغة العربيّة: «لزوم ما لا يلزم»، حيث إنّ النّصّ لا يجتزئُ بتكرار الحرْف الأخير من اللّفظة التي تُنسَجُ بها الإيقاعةُ الخارجيّة للنسيجة، ولكنّه يتكلّف اصطناعَ مقطعٍ صوتيّ كامل، وهو: «ـِيح»؛ فإذا كلُّ نسيجة من النسائج الأربعِ المتعاقبة تنتهي بمقطع «رِيحْ»: (جريحْ + الرّيحْ + التّجريحْ + كمستريحْ).
¥