تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولأمرٍ ما كان حرف الحاء موجوداً في العربيّة في ألفاظ دالّة على معانٍ معيّنة في كثير منها ذات صلة بالْجَنان والوجْدان، والألم والحنان، منها: الجرح، والحرقة، ومنها الاحتراق والحقد، ومنها الحبّ والحزن ... ولأمرٍ ما أيضاً ينطق الكائن البشريّ بمقطع «أحّْ» كلّما انتابه ألمٌ أو تعرّض لوجعٍ مُؤْذٍ ... فكأنّ الإلحاحَ على الإيقاع الحائيّ في مثل هذه اللّوحة الفنّيّة، وفي سَوائها أيضاً من هذه البكائيّة، دلالةٌ أخرى، داخل دلالة، على ما كان في وجدان الإبراهيمي من حرقة ولوعة، وحزن ووَجْد، على أعزّ فقيد، عبدِ الحميد ...

والطريقة التي اصطنعها الإبراهيميّ في تدبيج القول بالاشتغال على الإيقاع الدّاخليّ، والخارجيّ معاً، هي طريقة نصادفها في بعض الأشعار الكبيرة التي تلتمس الإيقاع الغنيّ لها في نسْجها الدّاخليّ، مثلما تلتزم به في إيقاعها الخارجي ... ولعلّ ذلك أن يعود إلى وفرة المحفوظ من ألفاظ اللّغة العربيّة التي تنهال على القريحة الْمِنْتَاقِ بالأَرْسال، فتُغْرقُها بالألفاظ ذات الأجراس. وذلك نفسُه ما يمثُل كثيراً في نسْج اللّغة الإبراهيميّة، كما نجد ذلك في لوحة أخرى من بكائيّة ابن باديس، مثلاً:

«يا قبْر، عزّ على دفينِك الصبْر، وتعاضَى21 كسْرُ القلوب الحزينة على مَن فيكَ أن يُقابَلَ بالجبر؛ ورجع الجدال، إلى الاعتدال: بين القائلين بالاختيار والقائلين بالجبر. يا قبر، ما أقدرَ اللّهَ أن يَطويَ علَماً ملأ الدّنيا في شِبْر!» 22

فقوله «ورجع الجدال، إلى الاعتدال» ليس مقصوداً لنفسه في البناء الإيقاعيّ العامّ، ولكنّه توارد على الكاتب عفْوَ الخاطر، فكوَّنَ إيقاعةً داخليّة عارضة لم تستطع أن تُنسي المتلقّي الإيقاعة المركزيّة القائمة على مقطع: «ـَبْرْ»، وهو إيقاع قائم على مقطع صوتيّ مزوجِ الجرس: «بْ» + «رْ»، يتردّد ستَّ مرّاتٍ. بل إنّ قوله أيضاً: «بالاختيار» يظاهر، من الوجهة الإيقاعيّة الدّاخليّة، قوله: «الجدال»، و «الاعتدال»؛ فهي سمات لفظيّة متماثلة النّهايات من حيث الامتداد الصوتيّ: آلْ؛ آلْ؛ يارْ.

كما لا ينبغي أن يُفلت منا ملاحظةُ أنّ اللّفظين المتوازيَين في هذه النسيجة، وهما: «القائلين»، و «والقائلين»، وإن كانا قد وردا على النّاصّ على سبيل الاِنْثيال اللّغويّ إلاّ أنّهما أسهما في تشكيل اللّوحة الإيقاعيّة الدّاخليّة، فلم يكد يبقى عنصر لغويّ وحده في مكوّناتها النّسْجيّة، بل كُلاَّ اتّخذ له قريناً ونظيراً في الكلام. ولذلك نقترح أن نقدّم هذه اللّوحة كما يجب أن تُقرَأَ إيقاعيّاً، وكما هي في أصل الصناعة الأسلوبيّة لدى الإبراهيمي، وذلك على هذا النحو:

«يا قبْرْ،

عَزّ على دفينِك الصبْرْ،

وتَعَاصَى -كسْرُ القلوب الحزينة- على مَن فيكَ أن يُقابَلَ بالجبْرْ؛

ورجع الجدالْ، إلى الاعتدالْ:

بين القائلين، بالاختيارْ؛ والقائلين، بالجبْرْ.

يا قبْرْ،

ما أقدَرَ اللّهَ أن يَطويَ علَماً ملأَ الدّنيا في شِبْرْ!» 23

ويطّرد هذا اللّعِبُ باللّغة، وهو ناشئ عن وفرتها والتّحكّم العالي في نسْجها، في كتابات الإبراهيمي الفنّيّة؛ فإنّا لم نكد نلاحظ ذلك في كتابات سابقة في الأدب العربي وقد خالجْنا نصوص المقاماتِ من أوّلها إلى آخرها عبْر عصورها الطِّوال، وفي معظم نصوصها الثِّقال؛24 كما لم نعثُر عليها لا في أسجاع كِتاب «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة»، ولا في كتاب «الإحاطة، في أخبار غرناطة»، وما ورد فيهما من أعلى ما كتب الأندلسيون من الكتابة الأدبيّة المسجوعة ... كما نلاحظ ذلك في قوله أيضا:

«( ... ) إلى الوادي الذي طرَّزَ جوانبَهُ آذار؛

وخلَع عليه الصانعُ -البديع، من حلْيِ التّرصيع، وحُلَل التّفويف والتّوشيع- ما تاهَ به على الأوديَةِ فخَلَعَ العِذَار!».25

فقوله: «الصانع البديعْ، من حلْي الترصيعْ، وحُلل التَّفويف والتّوشيعْ» لم يكن هو المقصودَ في النسج الإيقاعيّ لدى الإبراهيمي، وإنّما لكثرة اللّغة في مخزونه المحفوظ انهالت عليه كالسيل فأبدع في الإيقاع الدّاخليّ، قبل أن ينتهيَ إلى إقامة الإيقاع الخارجيّ الذي كان مقدَّراً له أن يقوم على مقطع: «آرْ»: آذارْ؛ عِذَارْ.

ـ[عبد القادر بن محي الدين]ــــــــ[07 - 01 - 08, 10:39 م]ـ

رابعاً. لغة السخريّة والغضب لدى الإبراهيمي

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير