تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

كثيراً ما كان الإبراهيميّ، حين كان يسخر أو يغضب، يتحلّل من الطريقة، التي حلّلنا أطرافاً منها في الفقرة الفارطة المتمحّضة لبكائيّة ابن باديس، وذلك حين كان يُحسّ بأنّه يخاطب عدداً أكبرَ من القرّاء، أو كأنْ قد! ... فكأنّه كان يفخّم من لغته ويغالي في تجويد تنميقها في المواقف الفخمة، وعن الشخصيّات الكبيرة، حتّى يتلاءم الكلام مع المقام؛ حتّى إذا ما كتب عن قضايا عاديّة، أو موضوعات صحفيّة جارية، تحلَّل من الطّريقة التي جئنا عليها، وأقبل على الكتابة بلغة في كلّ الأحوال، تنهلّ عليه وتنهال، فيكون فيها أسجاع، ولكنْ لا تكون من نوع لزوم ما لا يلزم، ولا من نوع النسْج القائم على الإيقاعين الدّاخليّ والخارجيّ إلاّ قليلاً. وفي هذه الحال لا يعوّل الإبراهيميّ في الْتِماسِ التّأثير في المتلقّي على اصطناع الإيقاع الغنيّ للّغة، ولكن بجزالة ألفاظها، ورشاقة تعبيراتها. وفي مثل هذه الكتابات لا يعوّل الشيخ، ابتغاءَ التّأثير في المتلقّين، على التزام الإيقاع الذي لا يعْدوه؛ ولكن باصطناع السخريّة فيُمْتع ويُبدع. ومع ذلك، فقد يحنّ الشيخ إلى دأْبه الجميل فيضمّخ كتابته ببعض تالك الإيقاعات المزدوجةِ التركيبِ. كما قد يصادفنا ذلك، مثلاً، في المقالة التي كتبها عن الشيخ عبد الحيّ الكتّاني؛ فقد كتب في مطلعها، بعد أن فلسف كيف كان العرب يسلكون طرائقَ واسعةً في استعمال اللّغة، والذَّهاب في دلالتها بعيدا، قبل أن يفلسف تَكنِّي الشيخ عبد الحيّ بِكُنىً مهينة «ممّا هو غالب في كُنَى العبيد» -يقول26:

«وإذا أنصفْنا الرجُل، قلنا: إنّه مجموعة من العناصر: منها العلم، ومنها الظلم؛ ومنها الحقّ، ومنها الباطل. وأكثرُها27 الشرُّ والفسادُ في الأرض: أُطلِقَ عليها لكثرتها واجتماعها في ظَرف هذا الاِسْمِ المركَّب الذي لا يلتقي مع الكثير منها في اشتقاق ولا دلالة وضعيّة، كما تُطلَق أسماءُ الأجناسِ المرتجَلَة، وكما يُطْلِق علماء الكيمياءِ على مركَّباتهم أسماءً28 لا يلمَحون فيها أصلاً من أصولها. ومن الأسماء ما يوضَع على الفال والتخيُّل، فيطيش الفال، وتكذِب الْمُخَيِّلَة29؛ ومنها ما يوضَع على التّوسّع والتّخيّل، فيضيق المجال، وتَضيع الحيلة! وإنّ اسم صاحبنا لم يصدُق فيه إلاّ جزؤُه الأوّل. فهو عبدٌ لعدّةِ أشياءَ جاءتْ بها الآثارُ، وجرتْ على ألسنة النّاس؛ ولكنّ أمْلَكَها به الاستعمار. أمّا جزؤه الثاني فليس من أسماء اللّه الحسنى، ولا يخطر هذا ببال مؤمنٍ يعرف الرجُل، ويعرف صفاتِ عباد الرّحمان، المذكورةَ في خواتيمِ سورة الفرقان؛ وإنّما هو بمعنى القبيلة، كما يقال: كاهنُ الحيّ، وعَرّاف الحيّ، وعَيْرُ الحيّ! وقبّح اللّه الاشتراكَ اللّفظيّ! فلو علِم العرب أنّه يأتي بمثل هذا الالتباس لطهَّروا منه لغتَهم، وتحامَوْهُ فيما تحامَوْا من الْمُسْتَهْجَنات. ولو أدرك نُفَاةُ الاشتراكِ في الاستعمالات الشرعيّة زمنَ عبدِ الحيّ، أو أدرك هو زمنَهم وعرَفوه، بما30 عرفناه؛ لكان مِن أقوى أدلّتهم على نَفْيه، ولارْتفع الخلاف في المسألة، وسجّل التاريخ منْقَبةً واحدة لعبد الحيّ؛ وهي أنّ اسمه كان سبباً في رفْع خلاف! ... ».31

فالإبراهيميّ هنا يلعب على السخريّة القاسية، وعلى النّسْج الرشيق الخفيف المتوالي الجمل، المنثال اللّغة، عوضاً عن الأسلوب القائم على الجمل الطِّوال، والإيقاعات الثقال ... بل لكأنّه كان يريد أن يلذَعَ المكتوبَ عنه بألفاظ اللّغة لذعاً، وأن يلدغَه لدغاً. فقد عمَد الإبراهيميّ إلى أوّل شيء يُعرف به المكتوبُ عنه، والْمَسْخُورُ منه، وهو اسمُه وكنيتُه فجاء إليهما الشيخُ يَرُوغُ عليهما سَخْراً؛ فشرع يحلّل دلالة اسم الشيخ عبد الحيّ وكنيته بجزْأَيْهما الأوّلِ والآخِر، فجاء بالعجب؛ إذا لم نكد نجده، هنا، يلعب على الْْتِماس الإيقاع الدّاخليّ إلاّ في قوله:

«ومن الأسماء ما يوضَع على الفال والتّخيُّلْ:

فيَطيش الفالْ، وتكذِبُ الْمُخِيلَهْ؛

ومنها ما يوضَع على التّوسُّع والتّحَيُّلْ:

فيَضيق الْمَجالْ، وتضيعُ الحيلَهْ».

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير