تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولقد ذهب، في قسوة مدهشة، إلى أنّ اسم «عبد الحيّ» لا يصدق منه إلاّ أوّلُه، وهو «عبْد»، إذْ كان عبداً لجملة من القيم المنحطّة التي عُرف بها الشيخ، فيما يزعم الإبراهيميّ. أمّا آخره، وهو «الحيّ» فليس ينبغي أن يذهب الوهمُ إلى أنّ المقصودَ منه هو أحدُ أسماء اللّه الحسنى؛ ولكنّه ينصرف إلى معانٍ أُخَرَ كأن تكون: عرّاف الحيّ، أو عَير الحي، أو كاهن الحيّ! ونحن نعلم أنّ هذه الكتابة التي تجسّد هذه الآراء لم يكن يريد بها الشيخُ إلى الإساءة إلى عبد الحيّ الكتّاني، كما يقرّ بفضله في جملة من فقرات هذه الهجائيّة نفسِها، بمقدار ما كان يعبّر عن رغبةٍ طافحة في مثل هذه الكتابة الساخرة وإبداء ما في عبقريّته من قدرة عجيبة على تناوُل أيِّ موضوع يُلاصُ عليه في الكتابة الأدبيّة الرّفيعة، كما كان لاحظ ذلك ابن أبي الحديد قديماً عن أبي عثمان الجاحظ في كتابه «العثمانيّة»، وهو ينتصر طوراً للبكريّين على العلويّين، وطوراً للعلويّين على البكريين، في أسلوب آسر، ولغة تنهال على القريحة كالشُّؤبوب الماطر.

فالأسلوب في هذه الهجائيّة لا يعوّل على السجع بالضرورة، بلْهَ «لزوم ما لا يلزم»، كما رأيناه في بكائيّة «مناجاة مبتورة، لدواعي الضرورة» حيث كان، هناك، مُثْقَلاً بالعواطف الجائشة، والمشاعر الطّافحة، والوجْدانات الصادقة، فعبّر عنها بلغة مثقلة، هي أيضاً، بالإيقاعات الباكية، واللّغة النّادبة. هو هنا لا! إنّما يريد أن يكتب كتابة ساخرة، وأكاد أقول: ضاحكة. وهو كان يعلم سلفاً مدى التّأثير الكبير الذي ستُحدثه كتابتُه هذه في أنفُس قرّاء «البصائر» الذين كانوا يُدمنون قراءتها مشرقاً ومغرباً، فكتب من أجل أن يُمْتِعهم، أساساً، بجمال الكتابة عن هذه الشخصيّة الثقافيّة الكبيرة، بغضّ الطّرْف عن الحقائق التي لم يكن الشيخ يودّ الوقوف لديها، لأنّه كان عجِلاً عنها إلى تصوير هذه السخريّة من شخصيّته، «فكَرْكَتَها» 32 على نحو لم يخطر على خلَد أحدٍ ...

والشيخ لم يتوقّف لدى اسم عبد الحيّ المسكين، فراغ عليه ضرْباً باليمين فحسب، كما كنّا أومأنا إلى بعض ذلك من قبل؛ ولكنّه توقّف أيضاً لدى كنيته فنحل أثْلَتَها، وبيّن سَوْأَتَها، فأبدع وأمتع. أم أليس هو الذي يقول عن كنية عبد الحيّ:

«من سنن العرب أنّهم يجعلون الاسم، سمة للطفولة، والكنيةَ عنواناً على الرُّجولة. لذلك كانوا لا يكْتَنُون إلاّ بنتاج الأصلاب، وثمرات الأرحام، من بنين وبنات؛ لأنّها الامتداد الطّبيعيّ لتاريخ الحياة بهم. ولا يَرْضَوْن بهذه الكُنَى والألقاب الرَّخوة إلاّ لعبيدهم. وما راجتْ هذه الكُنَى والألقابُ المهلهلة بين المسلمين إلاّ يوم تراختِ العُرى الشادّةُ لمجتمعهم؛ فراجَ فيهم التّخنُّث في الشمائل، والتأنّثُ في الطّباع، والارتخاء في العزائم، والنِّفاق في الدِّين. ( ... ) وفاتتْهم العظمة الحقيقيّة فالْتمسوها في الأسماء والكنى والألقاب. ولقد كان العرب صخوراً وجنادلَ، يومَ كان من أسمائهم صخْرٌ وجندلة؛ وكانوا غُصَصاً وسُموماً، يوم كان فيهم مُرّة وحنظلة؛ وكانوا أشواكاً وأحساكاً، يوم كان فيهم قتادة وعوسجة. فانظر ما هم اليوم؟!» 33

إنّ كلّ هذا الذي جاء به الإبراهيمي، وقد أفاد وأجاد، لم يكن مقصوداً لذاته فيؤخَذ على أنّه كان ضرْباً من التعليم للمتلقّي من شيخ عالم جليل، ولكنّه جاء به من أجل أن يُثبت أنّ عبد الحي الكتّاني لم يتكنَّ بأحد أبنائه الأفاضل، ولكنّه تكنّى بكنية فيها أنوثة وخُنوثة! ...

كما وظّف الشيخ هذه المسألة فاتّخذ منها تُكَأَةً للإِنحاء باللّوائم على العرب حين انحطّوا وتخلّفوا، فغيّروا من الأسماء القويّة الْمخيفة التي كانوا يُطلقونها على أبنائهم، فأصبحوا يسمّونهم بأسماءٍ لا تليق، في كثير منها، إلاّ بالبنات! ويتوقّف لدى لقب «سيّدي» فيدينه ويرْفُضه، ويذكّر أنّ النّاس ما كلِفُوا بكلمة «سيّدي» إلاّ يوم ضاع منهم السّؤدد! ولو قالها أحد في عهد عمر ابن الخطّاب رضي اللّه عنه لكان ضربه بدِرّته، قائلاً عن هذه الكلمة المتداولة بين الناس في الإدارة والتعامل على سبيل اللّياقة طوراً، والنّفاق طوراً آخر: «ما راجتْ بيننا، وشاعتْ فينا، إلاّ يوم أضعنا السيادة، وأفلتتْ من أيدينا القيادة. ولما ذا لم تَشع في المسلمين يوم كانوا سادة الدّنيا على الحقيقة؟ ولو قالها

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير