قائل لعمرَ لهاجتْ شِرَّتُه، ولبادرَتْ بالجواب دِرَّتُه».34
وعلى الرغم من أنّنا كنّا زعمنا أنّ الإبراهيمي ربما تغاضى عن طريقته الأثيرة لديه في الكتابة، فعزف عن اصطناع الإيقاع، وأنّه لم يكن يريد أن يؤثّر في متلقّيه بمجرّد سَوْق أسجاع جميلة له يستمتع بها، وإنّما أراد أن يكتب كتابة عالية خارج إطار الأسجاع، فكانت هذه اللّوحات الفنّيّة التي تجعلك تستمتع بكتابته، ليس لأنّه كان يصارع شيخاً عالماً جليلاً هو عبد الحيّ الكتّاني، ولكنْ لأنّه محمد البشير الإبراهيميّ وقد امتشق قلمه فأراد أن يكتب، فكتب! فهو يمتع به إذا هجا، وهو يمتع به إذا رثى، وهو يُمتع به، أيضاً، إذا أثنى: نقول، على الرغم من كلّ ذلك فإنّ الشيخ، في الحقيقة، لم يكن يكاد يتخلّص من لغته المنهالة عليه فكانت تمثُل له كتابةً قائمة على الإيقاع ...
وإلاّ فإنّا نصادف مقاطعَ كثيرةً تقوم على الإيقاع الداخلي والخارجيّ، كما في قوله:
«من سَنَن العرب أنّهم يجعلون:
الاِسْم، سمةً للطُّفولَهْ،
والكُنيةَ، عنواناً على الرُّجولَهْ.
لذلك كانوا لا يكْتَنُون إلاّ بِنَتاجِ الأصلابْ،
وثمرات الأرْحامْ:
من بنين وبناتْ».
فبعد أن جاء بالوتَد الأسلوبيّ المعوَّلِ عليه في نسْج الكلامِ القائم على الإيقاع، وهو الماثل في قوله: «من سَنن العرب أنّهم يجعلون»، انطلق يدبّج كلامه في تشكيلات إيقاعيّة ليست غنيّة بالأجراس، كما كنّا رأينا في بعض الكتابات الأخرى الكبيرة، ولكنّ القارئ، مع ذلك، يحسّ أنّ هناك صناعةً نسجيّة في الكلام، كما حاولنا تِبيان تقطيع الكلام على جهة القراءة الإيقاعيّة؛ إذ يوجد لفظ «الطفولهْ» الذي يقابله لفظ «الرجولهْ»؛ ولفظ «الأصلاب» الذي يقابله لفظ «الأرحام»، الذي يثنّيه الإيقاع المماثلُ الوارد بعدَه في لفظ «بنات»: (الطّفولَهْ، الرجولَهْ؛ الأصلابْ، الأرحام؛ بنات).
ونلاحظ أنّه على الرغم من معنى الطّباق البلاغيّ الماثل في ثنائيّة الطفولة والرجولة باعتبارهما متعارضَين في الدّلالة التقليديّة، إلاّ أنّهما من المنظور السّيمَائيّ يظلاّنِ متشاكلين من حيث البنية، ومتشاكلين من حيث إنّ كُلاًّ منهما ينتمي إلى الإنسان؛ فهما ليسا متباينيْن إلاّ باعتبار اختلاف السِّنّ. في حين أنّ الثلاثيّ الإيقاعيّ الآخَر: (الأصلابْ، الأرحامْ، بناتْ)، يتّسم بالتشاكل أكثر من اتّسامه بالتباين، وذلك بحكم أنّ ما يقع في الأرحام يأتي من الأصلاب، وأنّ نتيجة ذلك هي نجْلُ البنين والبنات ... فالكلام متشاكلٌ من حيث معناه، ومتشاكل أيضاً من حيث التماثلُ الإيقاعيّ: ـلاَبْ؛ ـحَامْ؛ ـنَاتْ (من قوله: الأصلاب، والأرحام، وبنات).
وتالِكَ نسيجةٌ في هذه اللّوحة، أمّا النسيجة الثانية فيها فإنّها تتّخذ سيرة أخرى من البنَاء النسجيّ، والسَّدَى الإيقاعيّ، ما يجعلها لا تختلف عن سابقتها، إلاّ لتكوّن بناء إيقاعيّاً ونسجيّاً يوَكِّدُ حرْص الإبراهيميّ على صناعة الكلام، وزَخْرَفة القول، في أعلى مستويات المعارض الأسلوبيّة العربيّة، كما نلاحظ ذلك في هذه النسيجة الثانية:
«ولقد كان العرب صخوراً وجنادل، يومَ كان من أسمائهم صخْرٌ وجندلَهْ؛
وكانوا غُصَصاً وسُموماً، يوم كان فيهم مُرّةُ وحَنظلَهْ؛
وكانوا أشواكاً وأحساكاً، يوم كان فيهم قتادةُ وعوسجَهْ.
فانظر ما هم اليوم؟».
وإذا كان ما قبل هذه اللّوحة ندّ قليلاً عن النّسْج الإيقاعيّ الغنيّ فوقع الاجتزاء بإيقاعٍ خفيف يحافظ على بنية الكتابة لدى الإبراهيمي، دون أن يستأثر بالاهتمام، فقيل:
«فراجَ فيهم:
التّخنُّث في الشمائل، والتأنّثُ في الطّباع، والارتخاء في العزائم، والنِّفاق في الدِّين. ( ... ) وفاتتْهم العظمة الحقيقيّة فالْتمسوها في الأسماء والكنى والألقاب»؛ (بحيث وقع النّسج الإيقاعيّ لظواهر الجمل وبطائنها من ألفاظ متلائمة دون أن تكون متماثلة تماثُلاً تامّاً في كلّ الأطوار:
التخنّثْ ويقابله التّأنّثْ؛ والارتخاءْ ويقابله الدّينْ، داخليّاً؛ مع تكرار قيد «في» أربع مرّات للربْط بين السمتين المنسوج منهما الْجُمل؛
¥