بَعْدُ، كَلِمَةٌ يُؤْتَى بِهَا لِلِانْتِقَالِ مِنْ أُسْلُوبٍ إلَى آخَرَ وَهُوَ ظَرْفُ زَمَانٍ بِمَعْنَى كَثِيرًا وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي الْمَكَانِ وَيَصِحُّ إرَادَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا هَاهُنَا وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الضَّمِّ، لِحَذْفِ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَنِيَّةٌ مَعْنَاهُ أَيْ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْبَسْمَلَةِ وَالْحَمْدَلَةِ وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، قَالَ ابْنُ الْمُلَقَّنِ فِي الْإِشَارَاتِ وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي ضَبْطِ بَعْدُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا الضَّمُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، ثَانِيهَا مَعَ التَّنْوِينِ، ثَالِثهَا: النَّصْبُ وَالتَّنْوِينُ، رَابِعُهَا: فَتْحُ الدَّالِ مَعَ تَقْدِيرِ لَفْظِ الْمُضَافِ إلَيْهِ حَكَاهُ النَّحَّاسُ (انْتَهَى).
وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ تَأْتِي هُنَا مَا عَدَا النَّصْبَ مَعَ التَّنْوِينِ فَإِنَّهَا لَمْ تُرْسَمْ بِأَلْفٍ وَقَدْ بَيَّنَ ابْنُ هِشَامٍ تِلْكَ الْأَوْجُهَ وَحَاصِلُهُ أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الضَّمِّ إذَا حُذِفَ الْمُضَافُ إلَيْهِ وَنُوِيَ مَعْنَاهُ وَتُعْرَبُ فِي ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ وَهِيَ مَا إذَا ذُكِرَ الْمُضَافُ إلَيْهِ أَوْ حُذِفَ وَنُوِيَ لَفْظُهُ أَوْ حُذِفَ وَلَمْ يُنْوَ شَيْءٌ وَلَمْ يُذْكَرْ الضَّمُّ مَعَ التَّنْوِينِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْثَمِيِّ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّهَا فَاعِلٌ لَفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ مَهْمَا يَكُنْ بَعْدُ أَيْ يُوجَدُ.
قَالَ الشِّهَابُ أَحْمَدُ الْغَيْنَمِيُّ وَهُوَ قَرِيبٌ (انْتَهَى).
(أَقُولُ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ فَاسِدًا فَهُوَ بَعِيدٌ فَمَا مَعْنَى نِسْبَةُ الْوُجُودِ إلَى بَعْدُ؟ وَكَوْنُ الْمُرَادُ لَفْظَهَا بَعِيدٌ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي التَّعْلِيقِ وَالْغَرَضِ مِنْهُ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ وَبَعْدُ قَدْ اخْتَلَفُوا فِيهَا فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهَا عَاطِفَةُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ، أَيْ عَاطِفَةُ مَضْمُونٍ سِيقَ لِغَرَضِ سَبَبِ التَّصْنِيفِ عَلَى مَضْمُونٍ سِيقَ لِقَصْدِ التَّبَرُّكِ، وَالْعَامِلُ فِي بَعْدُ عَلَى هَذَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ أَقُولُ.
وَنَحْوُهُ، وَالْفَاءُ زَائِدَةٌ لِلْإِشْعَارِ بِاللُّزُومِ أَوْ عَاطِفَةٌ.
وَالتَّقْدِيرُ: وَأَقُولُ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ.
كَذَا قِيلَ.
أَقُولُ لَا يَتَأَتَّى الْإِشْعَارُ بِاللُّزُومِ إذَا كَانَتْ الْوَاوُ عَاطِفَةً وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْمُحَقِّقُ الرَّضِيُّ إنَّ الْفَاءَ دَخَلَتْ لِتَوَهُّمِ:أمَّا إجْرَاءً لِلْمُتَوَهَّمِ مَجْرَى الْمُحَقَّقِ أَوْ لِتَقْدِيرِ " أَمَّا " قَبْلَ " بَعْدُ " عَلَى مَا جَوَّزَهُ الْجُرْجَانِيُّ.
وَقَدْ جَوَّزَ الْعَلَّامَةُ مُحَمَّدٌ الْقُهُسْتَانِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى النُّقَايَةِ عِنْدَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَبَعْدُ.
فَإِنَّ الْمُتَوَسِّلَ إلَى اللَّهِ بِأَقْوَى الذَّرِيعَةِ، أَنْ يَكُونَ الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ وَالْفَاءُ لِلتَّعْلِيلِ وَبَيَّنَهُ بِمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ الْبَعِيدِ ثُمَّ قَالَ وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا لِمَا فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الضَّعْفِ فَإِنَّ تَقْدِيرَ " أَمَّا " مَشْرُوطٌ بِأَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ الْجَزَاءِ أَمْرًا وَنَهْيًا نَاصِبًا لِمَا قَبْلَهَا أَوْ مُفَسِّرًا لَهُ كَمَا فِي الرَّضِيِّ وَأَمَّا تَوَهُّمُ " أَمَّا " فَلَمْ يَعْتَبِرْهُ أَحَدٌ مِنْ النَّحْوِيِّينَ (انْتَهَى).
وَقَدْ جَوَّزَ الْفَاضِلُ الدَّمَامِينِيُّ فِي الْمَنْهَلِ الصَّافِي شَرْحِ الْوَافِي عِنْدَ قَوْلِهِ وَبَعْدُ فَقَالَ: أَضْعَفُ عِبَادِ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ وَالْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ أَوْ عَاطِفَةً أَوْ زَائِدَةً وَقَرَّرَ ذَلِكَ بِمَا يَطُولُ فَرَاجِعْهُ.
وَقِيلَ الْوَاوُ فِي وَبَعْدُ لَيْسَتْ عَاطِفَةً بَلْ عِوَضًا عَنْ أَمَّا وَالْعَامِلُ فِي بَعْدُ الْفِعْلُ الْمُقَدَّرُ وَوَقَعَ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْعَامِلَ فِي بَعْدُ هَاهُنَا الْوَاوُ النَّائِبَةُ عَنْ أَمَّا الْمُتَضَمِّنَةُ مَعْنَى الشَّرْطِ وَفِعْلِهِ وَالتَّقْدِيرُ مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ (انْتَهَى).
وَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَقَدْ بَحَثَ الْمُحَقِّقُ الْفَزِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي حَوَاشِي التَّلْوِيحِ فِي جَعْلِ الْوَاوِ عِوَضًا عَنْ أَمَّا بِأَنْ جَعَلَهَا عِوَضًا يَقْتَضِي مُنَاسَبَةً بَيْنَ الْوَاوِ وَأَمَّا مُصَحَّحَةً لِتَعْوِيضِهَا وَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُمَا (انْتَهَى).
وَقَالَ ابْنُ إيَازٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ الْفُصُولِ
وَأَمَّا حَذْفُ أَمَّا فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّ أَمَّا نَائِبَةٌ عَنْ الْفِعْلِ وَأَدَاةِ الشَّرْطِ مَعًا فَلَوْ حُذِفَ كَانَ فِيهِ حَذْفُ النَّائِبِ وَالْمَنُوبِ وَهَذَا إجْحَافٌ كَثِيرٌ وَقَدْ ارْتَكَبَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ هَذَا الْمَحْظُورَ وَاسْتَسْهَلُوهُ وَذَلِكَ إذَا كَانَتْ أَمَّا مَعَ بَعْدُ فَيَقُولُونَ فِي أَمَّا بَعْدُ: وَبَعْدُ فَإِنَّ الْأَمْرَ كَذَا.
وَقَدْ صَنَعَ ابْنُ مُعْطِي فِي خُطْبَةِ أَلْفِيَّتِهِ هَذَا فَقَالَ: وَبَعْدُ فَالْعِلْمُ جَلِيلُ الْقَدْرِ.
وَمُرَادُهُ أَمَّا بَعْدُ (انْتَهَى).
أَقُولُ فِي كَوْنِ مَا صَنَعَهُ ابْنُ مُعْطِي مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ نَظَرٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالْوَاوِ الْعَطْفَ لَا أَنَّهَا عِوَضٌ عَنْ أَمَّا، وَكَوْنُ مُرَادِهِ أَمَّا بَعْدُ لَمْ تَقُمْ قَرِينَةٌ قَاطِعَةٌ عَلَيْهِ وَعَلَى تَسْلِيمِهِ فَقَدْ نَقَلَ الرَّضِيُّ أَنَّ أَمَّا يَجُوزُ حَذْفُهَا إذَا كَانَ الْجَزَاءُ أَمْرًا أو نَهْيًا فَمَنْعُ جَوَازِ حَذْفِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ مَمْنُوعٌ فَتَأَمَّلْ.