و هذا التبادل بين الحروف ذوات الأصوات المتشابهة في اللفظة الواحدة بنفس المعنى، او التعاقب كما درج على تسميته النحويون واللغويون القدامى مثل الخليل بن أحمد، ويعقوب بن السكيت، وأبو العباس المبرد، وثعلب، والسيوطي، وسائر من أتى من بعدهم من علماء اللغة المعاصرين، إنما هوظاهرة لغوية مثبتة ولا سبيل البتة إلى إنكارها. وتعريف التعاقب أنه ظاهرة صوتية يتعاقب بموجبها صوتان او اكثر في لفظة واحدة تؤدي معنى واحدا.
وهكذا فإننا نجد بخلاف حروف السين والصاد والزاي، أنّ التعاقب يحدث في ألفاظ كثيرة بين الحروف المتشابهة الأصوات والمخارج، فمن ذلك على سبيل المثال:
بزق بالزاي وبصق بالصاد وبسق بالسين بمعنى واحد، وعنوان بالنون وعلوان باللام، والغلط بالطاء والغلت بالتاء بمعنى الخطأ، وضربة لازب وضربة لازم، والثوم بالثاء والفوم بالفاء، ومن ذلك قول التوانسة في عاميتهم: " فمَّ " بالميم المشددة بمعنى: ثمَّ أي: هنالك أو يوجد. فإذا قال التونسي لك: " ما فمّاش مشكلة " فإنه يعني: ليس ثمة مشكلة، فاعجب لاحتفاظ لهجتهم إلى الآن بهذه اللفظة العربية الموغلة في الفصاحة،والتي اندثرت من الاستخدام الدارج في سائر العاميات العربية المعاصرة الأخرى.
وهناك أيضاً تعاقب بين حروف الدال والتاء والطاء، فالأفعال: مدَّ، ومطَّ، ومتَّ بفتح وتشديد بمعنى واحد. قلتُ: وهذه يقابلها في العامية السودانية في فعل الأمر " اعطني " بالنسبة للمخاطب المفرد: فيقال فيها: " أديني " بالدال، وهذه يقولها معظم السودانيين، و" أتِّيني " بتاء مشددة مكسورة، وكذلك " أنطيني " في بعض مناطق غرب السودان، وهذه الأخيرة هي من قبيل الاستنطاء ذاته المذكور في كتب اللغة، وكل هذه الأحرف صحيحة وجائزة.
أما جواز نطق " تزعة " بالزاي، فإنه يعود بنا مجدداً إلى مسألة التعاقب المطرد بين أصوات الصاد والسين والزاي. وهنا تحضرنا طرفة تنطوي على فائدة لغوية غاية في الأهمية لما نحن بصدده، أوردها العلاّمة الجلال السيوطي في كتابه: " المزهر "، مفادها أنّ أحدهم سأل إعرابياً: " أتقول الصّقر أم السّقر؟ " قال فأجابه الإعرابي: " بل الزّقر! ". وهذا هو بيت القصيد. فهذه هي يا صاح مثل التزعة التي ينطق بها السودانيون، وكله عند العرب صابون!.
ذلك، ولا ينطق السودانيون السين زيناً في " تسعة" وحدها، وإنما هنالك طائفة من الألفاظ الأخرى التي تتمثل فيها هذه الظاهرة الصوتية مثل قول بعضهم: " أزقيني موية وزقاه موية " بمعنى: " اسقني ماء، وسقاه ماءً ". وكذلك قولهم: " الزّعف " بدلاً من " السَّعف " بالسين، وهو جريد النخل أوالدوم الجاف. وتتمثل ظاهرة التعاقب الثلاثي بين هذه الأصوات الثلاثة في الفعل " صرخ " الفصيح الذي ينطقه معظم السودانيين " سرخ " بالسين، ولكن لا يندر أن تسمعه ينطق في غرب السودان " زرخ "بالزاي.
أما قي بعض العاميات العربية المعاصرة، فلنعمد إلى هذه المقارنة لكي نوضح اختلاف نطق حرف الصاد في الفعل الفصيح " صَفَّق "، أي أحدث صوتاً معيناً بيديه، على سبيل الإيقاع أو التعبير عن الفرح أو الإعجاب والتقدير، لكي يتبين صدق ما ذهبنا إليه من الإشارة إلى ظاهرة التعاقب الصوتي.
فالسودانيون مثلاً، ينطقون هذه اللفظة كما هي في الفصيح تقريبا " صفّق " بصاد محققة، سوى أنهم ينطقون القاف معقودة مثل صوت الحرف اللاتيني G في الكلمة الإنجليزية Good جرياً على خصائص لهجتهم العامية، بينما ينطقها المصريون " سأّف " بالسين عوضاً عن الصاد، وبهمزة مشددة تقوم مقام القاف بحسب الخصائص الصوتية للهجة المصرية القاهرية تليها فاء. أما السوريون مثلاً، فينطقونها " زأّف " بالزاي بدلاً من السين والصاد، تليها همزة مشددة بعدها فاء، فهل "جالك كلامي! ". فكأن النطق السوداني لهذا الفعل هو الأقرب إلى الأصل الفصيح، بينما اعترى النطقين المصري والسوري كليهما تعاقب، ثم قلب أو إبدال معاً، لورود الفاء فيهما بعد الصاد المفترضة،ولكن كل ذلك لا يجعل هذين النطقين خطأ بأي حال من الأحوال،وإنما هي مجرد صور مختلفة اختلافا طفيفاً لنفس اللفظ، وكلها جائزة وصحيحة.
هذا،ويقول الأخوة المصريون في: صغير " زُغيّر "،وقد يقولون " زغنّن " امعاناً في " الدلع " والتدليل. وسمعتهم يشتقون من كلمة " سعف " التي مر ذكرها الفعل " زعّفَ الحيطة يزعِّفها "، بمعنى: نظّف الحائط ينظفه بمكنسة السعف، تماماً مثلما ينطق السودانيون هذا الفعل بالزاي في عاميتهم.
ولا يقتصر هذا التداخل والتعاقب بين أصوات السين والصاد والزاي على اللغة العربية وحدها، بل تشاركها فيه طائفة معتبرة من اللغات الأخرى بما في ذلك اللغات الأوروبية. فمعروف على سبيل المثال أن الحرف اللاتيني S إذا ما وقع بين حرفي علة او حرفين رخوين في اللغتين الإنجليزية والفرنسية أيضاً، فإنه ينطق Z كما في كلمة Rose مثلا. وقد تشرب ال S نفسها شيئاً من صوت الصاد في بعض الكلمات الإنجليزية مثل: Sorry ، و Sun و Sauce. وبالمقابل ينطق الألماني الحرف S زاياً إذا ما وقع في أول بعض الكلمات مثل اسم الشركة الشهيرة (زيمنس) Siemens ، وبالعكس منه ينطق البرتغالي والإسباني الزاي سيناً إذا ما وقعت في أول الكلمة.
فيا أيها السودانيون داخل الوطن وخارجه، لا تبتئسوا ولا تتعقدوا، وتيقنوا أن لهجتكم هي من أفصح اللهجات العربية المعاصرة ومن أقربها إلى اللغة الفصحى، ثم ابتهجوا وغنوا مع محمد وردي: " خلاص كبرتِ وليك تزعطاشر سنة .. عمر الزهور، عمر الغرام، وعمر المنى! "، وكل عام وأنتم بخير.
¥