- كنتُ متردداً هل أحادثه أم لا ... ثم اقتربت منه جيداً ... لاحظ اقترابي، ولكنه لم يبدِ أية ردة فعل ... قلتُ: السلام عليكم يا عمّ ... أدار وجهه نحوي قليلاً ... تفحصني بطرف عينيه ثم قال بصوت خافت مرتجف: وعليكم السلام ... اقشعرتْ أناملي فجأة، قلتُ في نفسي: يا إلهي، إن نبْرتَه تركية ... أَيعقل أن يكون رجلاً تركياً! .. ولكن ما الذي جاء به إلى هنا!؟ إلى هذه الديار البعيدة عن بلاده!؟ فسألتُه بفضولٍ شديد:
- من أنت وماذا تفعل هنا يا عم!؟ ردّ بصوت خافت مرتجف:
- أنا ... أنا العريف حسن، رئيس مجموعة الرشاش الحادية عشرة، الكتيبة الثامنة، الطابور السادس والثلاثين، من الفرقة العشرين في الجيش العثماني ...
كانت الرجفة قد اختفت من صوته أثناء تقديم نفسه. ولكنه أعاد تعريف نفسه مرة أخرى وبصوت أقوى من ذي قبل وكأنه يريد إثبات وجوده ومتانته:
- أنا العريف حسن، رئيس مجموعة الرشاش الحادية عشرة، الكتيبة الثامنة، الطابور السادس والثلاثين، من الفرقة العشرين في الجيش العثماني ...
فأصبتُ بالدهش الشديد مرة أخرى، وانطلقت الكلمات من بين شفتيّ دون إرادة:
- ماذا؟ .. أنتَ عثماني؟!.
قال بكل فخر: "نعم" ...
- وماذا تفعل هنا؟!.
عندها بدأ قصته الحزينة التي لن أنساها مدى حياتي:
- لقد هاجم الإنكليز كتيبتنا في الحرب العالمية الأولى من جبهة القناة ... حيث كان الجيش العثماني العظيم يحارب في جبهات عديدة رغم قلة المعدات الحربية لديه وإمكاناته الضيقة. وفي نهاية المطاف غُلب جيشُنا في القناة واضطر إلى الانسحاب ... كانت بلاد أجدادنا الأمجاد تسقط واحدة تلو الأخرى ... وعندما احتل الإنكليز القدس، ظلّتْ وحْدتُنا في القدس كقوة "حرس مؤخرة الانسحاب" ...
فقاطعتُه بالسؤال:
- وماذا تعني وحدة حرس مؤخرة الانسحاب؟
- ترك العثمانيون حرساً لحماية هذه البلدة المباركة من السلب والنهب إلى حين دخول الإنكليز إليها؛ حيث كانت الدول قديماً عندما تحتل مدينةً، تطلب من الدولة المهزومة أن تبقي حرساً مؤخرة لئلا يثور الناس ضدها .. ومن هذا القبيل، طلب الإنكليز عند احتلالهم القدس، أن تُبقي الدولة العثمانية قوة لهذا الغرض .. وهذه القوات التي تبقى في مؤخرة الجيش يقال لها قوات "حرس مؤخرة الانسحاب" ...
- ثم ماذا حدث بعد ذلك يا جدي؟
- ثم استطرد يحدث قائلاً: نحن بقينا في القدس وكنا ثلاثاً وخمسين شخصاً كحرس مؤخرة ... وأثناء ذلك وصلَنا خبرُ تسريحِ جيشِ الدولة العثمانية العلية باتفاقية "موندروس" ... عندها قال لنا اليوزباشي (النقيب): "أيها الأسود، إن الدولة العثمانية العلية في ضيق كبير ... جيشنا المجيد يُسَرَّح ... والقيادة تستدعيني إلى إسطنبول ... يجب أن أذهب وألبّي الأوامر، وإلا أكون قد خالفتُ شروط الهدنة ورفضتُ الطاعة، فمن أراد منكم العودة إلى بلاده فليفعل ... ولكن أقول لكم إن القدس أمانة السلطان سليم خان في أعناقنا، فلا يجوز أن نخون هذه الأمانة أو نتخلى عنها ... فنصيحتي لكم أن تبقوا هنا حراساً، كي لا يقول الناس: "إن الدولة العثمانية تخلت عنّا وغادرت" ... وإن الدولة العثمانية إذا تخلّت عن القدس -أول قبلة لفخر الكائنات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم- فإن ذلك سيكون انتصاراً حقيقياً لأعدائنا ... فلا تضعوا عزّة الإسلام وكرامة الدولة العثمانية تحت الأقدام" ...
فبقيتْ وحدتُنا كلها في القدس ... لأننا ما رضينا أن يقول الناس "تخلت الدولة العثمانية عنا" ... أردنا ألا يبكي المسجد الأقصى بعد أربعة قرون ... أردنا ألا يتألم سلطان الأنبياء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ... لم نرض أن يستغرق العالم الإسلامي في مأتم وحزن ... ثم تعاقبت السنون الطويلة ومضت كلمح البصر ... ورفاقي كلهم انتقلوا إلى رحمة الله تعالى واحداً واحداً ... لم يستطع الأعداء أن يقضوا علينا، وإنما القدر والموت ... وها أنا ذا العريف حسن لا زلتُ على وظيفتي حارساً على القدس الشريف ... حارساً على المسجد الأقصى ...
امتلأتْ عيناه واختلطت دموعه بعَرَقِه الذي كان يتصبب من جبينه، إذ كانت تجاعيد وجهه تحتضن هذا المزيج الطاهر وكأنها لا تريد أن تُسقِط حتى قطرة واحدة منها على الأرض احتراماً لهذا البطل وتقديراً لصموده ... ثم نظر إليّ نظرة رجاء وقال:
¥