وإنما تنوعت العبارات عن ابن عباس (ت: 68) رضي الله عنهما؛ لأنه نحى إلى التمثيل لذلك الاسم العام، وهو الشاهد والمشهود، وإذا تأملت أقواله التفسيرية في الشاهد وجدتها مما ينطبق عليه وصف الشاهد وكذا أقواله في المشهود ينطبق عليها وصف المشهود.
ولو حملت عبارته على التخصيص لذهبت إلى تناقض الرواية عنه، كما يظن من جَهِلَ طريقة السلف في التفسير فحكم على هذا التنوع وأمثاله بالتناقض، وهو في الحقيقة ليس كذلك.
كما أنه قد ورد عن بعضهم الإشارة إلى هذا، قال الطبري:» حدثني يعقوب قال ثني هشيم قال أخبرنا أبو بشر وعطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال في الكوثر: هو الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه.
قال أبو بشر: فقلت لسعيد بن جبير فإن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة قال فقال سعيد النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه «. تفسير الطبري، ط: الحلبي (30: 321).
وأما الجواب عن الثاني، فإنه يقال: لا اختلاف بين الترجيح بقاعدة العموم والقول بالتمثيل، وإنما تُذكر القاعدة لئلا يُفهم أن هذه التمثيلات على سبيل التخصيص، وهذا يعني أن عباراتهم في التمثيل ليست حجة في تخصيص العامِّ إلا أن يَرِدَ في سياق العبارة ما يدلُّ على إرادة المفسر من السلف التخصيصَ.
وإذا ورد التخصيص للَّفظ العامِّ، وظهر ضعف التخصيص، فإنَّ القاعدة تكون من باب ردِّ التخصيص.
أما إذا حملتَ الأقوال على التمثيل، فإنَّ القول بالقاعدة يكون للتنبيه على العموم، والله أعلم.
المسألة الرابعة: تعميم اللفظ على عمومه الأعم دون تقييده بسياق الآية.
إن هذه المسألة من المسائل المهمة في هذا الموضوع، وهي مما يدخل ضمن موضوع الاستنباط؛ لأنَّ فيها العبور عما سيق اللفظ أو الجملة فيه إلى معانٍ تدخل فيهما بتجريدهما عن سياقهما الذي هما فيه.
ويظهر أن القياس هو الذي يمثِّل هذه المسألة؛ لأنَّ الخروج باللفظ أو الجملة عن سياقهما إدخالٌ لصور لم يدل عليها ظاهر اللفظة أو الجملة في السياق.
ويدخل في هذا المهيع من الصور:
1 ـ إدخال ما ليس في حكم الآية بها.
2 ـ الاستشهاد بالآية على ما لم تنْزل فيه.
3 ـ تنْزيل الآية على واقعة حدثت بعد نزول القرآن.
ومن أمثلة إدخال ما ليس في حكم الآية بها: ما ورد في تفسير قوله تعالى: ?الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون?] البقرة: 3 [، قال الراغب الأصفهاني (ت: بعد: 400):» فالإنفاق من الرزق ـ بالنظر العامي ـ: من المال؛ كما تقدَّم.
وأما بالنظر الخاصي: فقد يكون الإنفاق من جميع المعاون التي آتانا الله ـ عز وجل ـ من النعم الباطنة والظاهرة؛ كالعلم والقوة والجاه والمال. ألا ترى إلى قوله عليه السلام: إن علمًا لا يقال به، ككنْز لا يُنفق منه.
وبهذا النظر عدَّ الشجاعة وبذل الجاه وبذل العلم من الجود حتى قال الشاعر:
....................... والجود بالنفس أقصى غاية الجود
وقال آخر:
بحر يجود بماله وبجاهه والجود كل الجود بذل الجاه
وقال حكيم: الجود التامُّ: بذل العلم.
فمتاع الدنيا عرض زائل ينقصه الإنفاق. وإذا تزاحم عليه قوم ثَلَمَ بعضهم حال بعضٍ، والعلم بالضدِّ، فهو باق دائم، ويزكو على النفقة، ولا يثلم تناول البعض حال الباقين.
وإلى هذا ذهب بعض المحققين، فقال: ?ومما رزقناهم ينفقون?؛ أي: مما خصصناهم من أنوار المعرفة يفيضون. فعلى هذا [هو] عام في كل ذلك «. مقدمة جامع التفاسير، تحقيق أحمد حسن فرحات (ص: 158 ـ 159).
وهذا المثال ظاهر جدًّا، فسياق الآية كما هو ظاهر في الإنفاق المالي، بدلالة قرن النفقة بالصلاة، والذي يقرن بها غالبًا هو الزكاة، وبدلالة أن مصطلح النفقة في القرآن يغلب على النفقة المالية.
¥