سمِّيت مُلَحًا لما فيها من الغرابة التي يستعذبها القارئ ويستلذُّها حتى تستولي على لُبِّهِ. قال الراغب في المفردات: ((ثمَّ استُعير من لفظ المِلح الملاحةُ، فقيل: رجل مليحٌ، وذلك يرجع إلى حسنٍ يغمض إدراكه)).
وكذا مُلَحُ الكلام وطرائفُه استعيرت من هذا الباب، ويظهر أنها أشبهت بحسنها الملح الذي يُحسِّنُ طعم الطعام ويزيِّنه.
ثالثًا: النُّكت:
سُمِّيتَ نُكتًا، لأنها تؤثِّر على لُبِّ قارئها، فأصل النَّكت يرجع إلى معنى التأثير اليسير على الشي، كما قال ابن فارس في مقاييس اللغة، ومن نكت الأرض: إذا ضربها بقضيب، فضربها بالقضيب يُحدِث أثرًا فيها، ومن قوله صلى الله عليه وسلم: ((نُكِتَ في قلبه نُكتةٌ سوداء))؛ لأنَّ الذنب يؤثر في القلب، فيكون من أثره نقطة سوداء تصير على القلب، والله أعلم.
وبعد هذا، فإن في التحليل اللغوي ما يحتاج إلى زيادة إفصاح وبحث، لكني جعلته مدخلاً لهذا الموضوع الذي يرغب فيه كثيرٌ من قارئ التفسير، وتراه يأخذُ بمجامع لُبِّهم، والله الموفق.
المسألة الثانية:مقام المُلح من العلم:
ذكرها الشاطبي في الموافقات (تحقيق:مشهور سلمان: 1: 107) المقدمة التاسعة من مقدمات كتابه، فقال: ((من العلم ما هو صُلْبٌ، ومنه ما هو مُلَحُ العلم لا من صُلبِه، ومنه ما ليس من صلب العلم ولا مُلَحه)). وقد فصَّل هذه الثلاثة، فارجع إليها تكرُّمًا.
المسألة الثالثة: قواعد في اللطائف والمُلَح والنكت:
أولاً: النكت لا تتزاحم.
المراد بذلك أنَّ اللفظة الواحد أو الجملة الواحدة يمكن أن تحتوي على أكثر من نكته، وهذه النكت لا تتعارض فيما بينها، وهي صحيحة كلُها، فيجوز أن تكون كلُّ هذه النُّكت مرادةً بهذا اللفظ أو هذه الجملة، ومن أمثلة ذلك:
قال الآلوسي: ((… ((فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا)) إخبار عن عاجل أمرهم وآجله من الضحك القليل في الدنيا والبكاء الكثير في الأخرى.
وإخراجه في صورة الأمر للدلالة على تحتم وقوع المخبر به، وذلك لأن صيغة الأمر للوجوب في الأصل والأكثر، فاستعمل في لازم معناه.
أو لأنه لا يحتمل الصدق والكذب بخلاف الخبر؛ كذا قرره الشهاب، ثم قال: فإن قلت: الوجوب لا يقتضي الوجود، وقد قالوا: إنه يعبر عن الأمر بالخبر للمبالغة لاقتضائه تحقق المأمور به، فالخبر آكد، وقد مرَّ مثله، فما باله عكس؟
قلت: لا منافاة بينهما كما قيل؛لأن لكل مقام مقالا، والنكت لا تتزاحم، فإذا عبر عن الأمر بالخبر لإفادة أن المأمور لشدة امتثاله كأنه وقع منه ذلك، وتحقق قبل الأمر كان أبلغ.
وإذا عبر عن الخبر بالأمر لإفادة لزومه ووجوبه كأنه مأمور به أفاد ذلك مبالغة من جهة أخرى)) (روح المعاني 10: 152)
وقال الطاهر ابن عاشور: ((والواو في قوله: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفؤاً أَحَدٌ) (الاخلاص:4) اعتراضية، وهي واو الحال، كالواو في قوله تعالى: (وَهَلْ يُجَازَى إِلاَّ الْكَفُورُ) (سبأ: من الآية17) فإنها تذييل لجملة: (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا) (سبأ: من الآية17).
ويجوز كون الواو عاطفة إن جعلت الواو الأولى عاطفة، ويكون المقصود من الجملة إثبات وصف مخالفته تعالى للحوادث، وتكون استفادة معنى التذييل تبعًا للمعنى، والنكت لا تتزاحم)) (التحرير والتنوير 30: 620). (1)
وانظر أمثلة لمصطلح: النكت لا تتزاحم: روح المعاني (5: 122/ 10: 83/ 15: 341) التحرير والتنوير (28: 346).
ثانيًا: النكت لا يلزم منها الاطراد
المراد أن النكتة أو اللطيفة التي تستنبطها في سياق لا يلزم تُعارض بسبب ساق آخر خالف السياق الأول في النظم، لأن الاطراد ليس من شروط اللطائف والنكت، وقد نصَّ الآلوسي على ذلك، فقال: ((… ((وإذا شئنا بدلنا أمثالهم)) أي: أهلكناهم وبدلنا أمثالهم في شدة الخلق.
((تبديلا)) بديعا لا ريب فيه؛ يعني: البعث والنشأة الأخرى، فالتبديل في الصفات؛ لأن المعاد هو المبتدأ.
ولكون الأمر محققًا كائنا جيء بـ (إذا).
وذكر المشيئة لإبهام وقته، ومثله شائع، كما يقول العظيم لمن يسأله الأنعام: إذا شئتُ أحسِن إليك.
ويجوز أن يكون المعنى: وإذا شئنا أهلكناهم وبدلنا غيرهم ممن يطيع.
¥