واختلاف التغاير في الرسم لازال حتى اليوم قائمًا بين الكَتَبَةِ، وهو محلُّ تطوِّرٍ يعرفه من قرأ في موضوع الإملاء عبر القرون، وهو اختلافُ تغايرٍ بحتٍ، واجتهادٌ من العلماء، والأمر فيه واسعٌ جدًّا، وارجع إلى اختلاف المعاصرين في كتابة لفظة (شئون / شؤون) وغيرها، وقس عليه في أمر تغاير الرسم.
ـ أن الكتبة من الصحابة لم يعتبروا اختلاف هذه الرسوم، وجعلوا القراء هي القاضية على الرسم؛ لذا تجدُ في كتاب (المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار) للداني (ت: 44) بابًا بعنوان (ذكر ما اتفقت على رسمه مصاحف أهل الأمصار من أول القرآن إلى آخره)، وقد ذكر فيه عددًا من كلمات القرآن كُتِبَت على وجه واحدٍ من الرسم، وسأذكر منها مثالين يحسن بك أن تراجعهما في كتب الرسم ليظهر لك صحة ما أقول:
الكلمة الأولى: ((الصراط)) فقد كُتِبَت في جميع المصاحف بالصاد، فيها ثلاث قراءات صحيحة، وهي مما حُكِمَ بتواترِه.
الأولى: بالسين وهي رواية قنبل عن ابن كثير المكي.
الثانية: بإشمام الصاد زايًا، وهي رواية خلف عن حمزة.
الثالثة: بالصاد كما رسمت في جميع المصاحف، وهي قراءة الباقين، وهم الجمهور (1).
فلو كان الرسم معتبرًا، فلا أقلَّ من أن يرسموا الصراط في مصحف بالصاد وفي مصحف بالسين، وإنما تركوا ذلك؛ لأنَّ القراءة قاضية على الرسم، وعندهم لا يؤخذ من الرسم طريقة القراءة، فالقراءة أولاً، والرسم تبعٌ.
الكلمة الثانية: ((ضنين))، وقد رُسِمت في جميع المصاحف بالضاد، وقرئت على وجهين:
الأول: بالظاء، وقرأ بها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي
الثانية: بالضاد، كما هي مرسومة في المصاحف، وقرأ بها الباقون من القراء السبعة.
وهاتان القراءتان لا يحتمل بعضهما البعض لا من جهة الرسم ولا من جهة المعنى، وهذا مما يدلُّك أيضًا على أنَّ الأصل في قراءة القرآن نقل حروفه قراءة، والرسم تبع له، ولا يلزم أن يوافق الرسم جميع المحفوظ الملفوظ من القرآن الكريم، والله أعلم.
وإذا تبيَّن لك هذا، فاعلم أنَّ مصحف أبي بكر رضي الله عنه قد كُتِبَ على صورة واحدةٍ، هذا هو الأصل، مع احتمال أن يكون قد رسمت بعض حروفه التي وقع فيها تغاير في المصحف نفسِه، في أي مكان منه إما في حواشيه، وإما أن تكتب الكلمات المتغايرة متتالية، وهذا لا يحكمه إلا الاطلاع المباشر على مصحف أبي بكر رضي الله عنه، وذلك ما لا سبيل إليه كما تعلم.
والمقصود من ذلك أنَّ كون أبي بكر رسمه على وجه واحد من الرسم فإنه لا يعني أنه أهدر وجوه القراءة الأخرى؛ لأنها مما يُتلقى من طريق القراء لا من الرسم فتأمَّل هذا.
وإذا كان ذلك كذلك، فلا يصحُّ أن يقال: إنَّ مصحف أبي بكر حوى الحرف السبعة، ولا أنَّه حوى ما بقي منها مما لم يُنسخ، إلا إذا عرَّف المتكلِّم بهذا مقصوده بالأحرف السبعة، والله الموفق.
واعلم أنَّ الموضوع طويل، ولا أراني ألممت إلا بمقصوده إلا على عجلٍ، وهو لا يروي غليلاً، ولا يشفي عليلاً، وأسأل الله أن يوفِّق بعض الباحثين لإعادة النظر في هذا الموضوع الخطير،و آخر دعواي أن الحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــ
(1) قال السخاوي (ت: 643) في الوسيلة إلى كشف العقيلة (ص: 89): ((قلت: ورأيت في كتاب القراءات لأبي عبيد عند ذكر الصراط؛ قال أبو عبيد: والقراءة عندنا بالصاد؛ لاجتماع المصاحف في الأمصار كلها على الخطِّ بالصاد)).
وهذه طريقة من الترجيح معروفة قبل ابن جرير الطبري (ت: 310)، ولا أدري لماذا فُتِحت عين بعضهم على ابن جرير (ت: 310)، ولم تر أقوال الآخرين، وإنما سُقت هذا هنا لأنبه إلى حاجة هذا الموضوع إلى بحث مستفيضٍ، وهو من الموضوعات المهمة التي يحسن بالمتخصصين ألا يغضُّوا الطرف عنها، وأن يبحثه أكثر من متخصِّص لتتواطأ أقوالهم على تبيين هذه المسألة الشائكة المهمة، وأن يردوا تلك القالة المنكرة التي أُلصِقت بابن جرير الطبري الذي لم يكن بِدْعَا في هذا المنهج، بل سبقه علماء ولحقه علماء، وللموضوع جوانب أخرى تحتاج إلى بيان.
¥