ومن ذلك قوله: ((أصل قضى: حَتَمَ، كقول الله عز وجل: (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْت) (الزمر: من الآية42)؛ أي: حَتَمَه عليها.
ثُمَّ يصير الحتم بمعانٍ؛ كقوله: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (الاسراء: من الآية23)؛ أي: أمر؛ لأنه لما أمر حتم بالأمر.
وكقوله (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ) (الإسراء: من الآية4)؛ أي: أعلمناهم؛ لأنه لما اخبرهم أنهم سيفسدون في الأرض، حتم بوقوع الخبر.
وقوله: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَات) (فصلت: من الآية12)؛ أي: فصنعهن.
وقوله: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاض) (طه: من الآية72)؛ أي: فاصنع ما أنت صانع.
ومثله قوله: (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيّ) (يونس: من الآية71)؛ أي: اعملوا ما أنتم عاملون ولا تُنظِرون.
قال أبو ذؤيب:
وعليهما مسرودتان قضاهما** داود أو صَنَعُ السوابغ تبَّع
أي: صنعهما داود وتُبَّع.
وقال الآخر في عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
قضيت أموًا ثم غادرت بعدها** بوائج في أكمامها لم تُفَتَّقِ.
أي: عملت أعمالاً؛ لأنَّ كل من عمل عملاً وفرغ منه فقد حتمه وقطعه.
ومنه قيل للحاكم: قاض؛ لأنه يقطع على الناس الأمور ويحتِم.
وقيل: قُضِيَ قضاءك؛ أي: فُرِغ منه أمرك.
وقالوا للميت: قد قضى؛ أي: فرغ.
وهذه كلها فروع ترجع إلى أصل واحدٍ)). تأويل مشكل القرآن (ص: 442).
ويظهر أنَّ ابن فارس (ت: 395) قد استفاد منه هذه الفكرة، فصنَّف كتابه العظيم (مقاييس اللغة) منتهجًا بذلك ما كان قد طرحه ابن قتيبه (ت: 276) في كتابيه السابقين. ينظر: مقدمة السيد أحمد صقر لكتاب تأويل مشكل القرآن (ص: 83).
كما عُنيَ الراغب الأصفهاني (ت: 400) بأصل الاشتقاق في كتابه (مفردات ألفاظ القرآن).
ثمَّ إنك تجد لأصل الاشتقاق منثورات في كتب اللغويين، ككتاب الاشتقاق للأصمعي (ت: 215)، وابن دريد (ت: 321)، وغيرها من كتب أهل اللغة.
وممن كان لهم بذلك عناية واضحة أبو علي الفارسي (ت: 377)، وتلميذه ابن جني (ت: 392)
وليس المقصد التأريخ لهذه المسألة العلمية، وإنما ذكرت إشارات منه.
وقد يكون للفظة أصل واحد تدور عليه تصريفات الكلمة في لغة العرب، وقد يكون لها أكثر من أصل.
ومن أمثلة الألفاظ القرآنية التي يكون لها أصل واحدٌ لفظ (الأليم)، قال ابن فارس (ت: 395): ((الألف واللام والميم أصل واحدٌ، وهو الوجع))، وعلى هذا فإنَّ تَصَرُّفَات مادة (أَلَمَ) ترجع إلى هذا المعنى الكلي، فكل تقلُّباته في القرآن وفي استعمال العرب يعود إلى معنى الوجع؛ كقوله تعالى: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) (البقرة:10)
وقوله تعالى: (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) (النساء:104).
أهمية معرفة أصل الاشتقاق:
معرفة أصل اشتقاق اللفظ يفيد في جمع جملة من المفردات القرآنية المتناثرة بتصريفات متعددة تحت معنى كليِّ واحد، وهذه المعرفة تسوق إلى تفسير اللفظ في سياقه، بحيث يُعبَّر عنه بما يناسبه في هذا السياق، ويعبر عنه بما يناسبه في السياق الآخر، وكلها ترجع إلى هذا المعنى الاشتقاقي الكليِّ.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ 0 وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) (الانشقاق: 17 ـ 18)، فمادة (وسق) تدلُّ على جمع وضمِّ واحتواء، ولفظت وسق واتسق مشتقة منها، فمعنى الآية الأولى: والليل وما جمع وحوى وضمَّ من نجوم وغيرها.
ومعنى الآية الأخرى: والقمر إذا اجتمع واكتمل فصار بدرًا.
وبهذا تكون مادة اللفظتين من أصل واحد، وهو الجمع والضمُّ.
ومنها لفظ (أيد) بمعنى قوَّى، وقد ورد لهذا الأصل عدة تصريفات، منها:
¥