أحسن طرق التفسير؟ فالجواب: إن أصح الطريق إلى ذلك أن يفسَّر القرآن بالقرآن فما أُجمل في مكان فإنه قد بُسط في موضع آخر فإن أعياك ذلك فعليك بالسُّنَّة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، بل قد قال الإمام أبو عبد اللَّه محمد بن إدريس الشافعي - رحمه الله - تعالى - كل ما حكم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو مما فهمه من القرآن. قال اللَّه - تعالى -: وأنزلنا إليك الذكر لتُبيِّن للناس ما نُزِّل إليهم) (6) ولهذا قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -:"أَلا إني أُوتيت القرآن ومثله معه" (7) يعني السُّنَّة، والسُّنَّة أيضاً تنزل عليهم بالوحي كما ينزل القرآن إلا أنها لا تتلى كما يتلى القرآن، وقد استدل الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - وغيره من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة ليس هذا موضع بيان ذلك".
وابن كثير يرجح في"تفسيره"بعض الأقوال على بعض، ويضعف بعض الروايات ويصحّح بعضها الآخر، ويساعد على ذلك خبرته بعلوم الحديث ومصطلحه، وينقل عن التفاسير الأخرى التي تقدمته، كتفسير الطبري، وتفسير أبي حاتم، وتفسير ابن عطية، وغير ذلك من التفاسير الأخرى.
ويبيّن ابن كثير -رحمه الله- معاني الآيات القرآنية ويدخل باختصار في المناقشات الفقهية، واستنباط الأحكام، ويُنبِّه إلى ما ورد من التفسير بالمأثور من منكرات الإسرائليات، ويحذر منها إجمالاً تارة، وعلى وجه التعيين والبيان لبعضها تارة أخرى، ويتحاشى المباحث الإعرابية وفنون البلاغة والاستطراد للعلوم الأخرى.
فمثلاً عند تفسيره لقوله - تعالى - في الآية (67) وما بعدها من سورة البقرة إن اللَّه يأمركم أن تذبحوا بقرة ... ) إلى آخر القصة، نراه يقص لنا قصة طويلة وغريبة عن طلبهم للبقرة المخصوصة، وعن وجودهم لها عند رجل من بني إسرائيل كان من أبرّ الناس بأبيه .. الخ، ويروي كل ما قيل في ذلك عن بعض علماء السلف .. ثم بعد أن يفرغ من هذا كله يقول ما نصه:"وهذه السياقات عن عبيدة وأبي العالية والسُّدِّي وغيرهم فيها اختلاف، والظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل، وهي مما يجوز نقلها ولكن لا تصدَّق ولا تكذب، فلهذا لا يعتمد عليه إلا ما وافق الحق عندنا، واللَّه أعلم.
ومثلاً عند تفسيره لأول سورة ق نراه يعرض لمعنى هذا الحرف في أول السورة ق) ويقول:" ... وقد روي عن بعض السَّلف أنهم قالوا: ق جبل محيط بجميع الأرض يقال له جبل قاف، وكأن هذا -والله أعلم- من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم مما لا يصدّق ولا يكذّب، وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاف بعض زنادقتهم، يلبّسون به على الناس أمر دينهم، كلما افترى في هذه الأمة مع جلاله قدر علمائها وحفاظها وأئمتها أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما بالعهد من قدم، فكيف بأمة بني إسرائيل مع طول المدى وقلّة الحفّاظ النقاد فيهم، وشربهم الخمور وتحريف علمائهم عنهم في قوله - صلى الله عليه وسلم -:"وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" (8) فيما قد يجوزه العقل، فأما فيما تحيله العقول ويحكم فيه بالبطلان ويغلب على الظنون كذبه، فليس من هذا القبيل، والله أعلم.
كما يلاحظ على ابن كثير أنه يدخل في المناقشات الفقهية، ويذكر أقوال العلماء وأدّلتهم عندما يشرح آية من آيات الأحكام، وإن شئت أن ترى مثالاً لذلك فارجع إليه عند قوله - تعالى - في الآية 185) من سورة البقرة: .. فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفرٍ فعدّة من أيام أخر .. ) فإنه يذكر أربع مسائل تتعلق بهذه الآية، ويذكر أقوال العلماء فيها، وأدلتهم على ما ذهبوا إليها.
وهكذا يدخل ابن كثير في خلافات الفقهاء، ويخوض في مذاهبهم وأدلتهم كلما تكلم عن آية لها تعلق بالأحكام، ولكنه مع هذا مقتصد مقل لا يسرف كما أسرف غيره من فقها المفسرين.
وبالجملة، فإن"تفسير ابن كثير"من خير ما كتب في التفسير المأثور، وقد شهد له بعض العلماء بالخيرية، فقال السيوطي في"ذيل تذكرة الحفاظ"والزرقاني في"شرح المواهب اللدنية"إنه لم يؤلف على نمطه مثله.
ويمكن تلخيص مميزات تفسير ابن كثير في النقاط التالية:
أ- الاعتماد على النصوص في التفسير.
ب- يبدأ في تفسير الآية بذكر المعنى العام لها ثم يذكر الآراء في ذلك.
ج- يذكر أسباب النزول حين يبين الأحكام المستنبطة من الآيات لأن معرفة السبب سبيل إلى معرفة المسبب.
¥