الفصل الثاني: أنواع القراءات ومراتبها، ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: ما يُقرأ به وما لا يُقرأ به.
المبحث الثاني: مراتب القراءات.
أنواع القراءات ومراتبها
كان لأحوال القراءات التاريخية أثر بين في تنوعها، وتعتبر العرضة الأخيرة المرحلة التي عليها الاعتماد، ولا سيما بعد الجمع العثماني ()، ومن ثم فإن ما خالف الرسم أقل رتبه مما وافقه أو احتمله.
كما أن لنقل القراءات والمشافهة بها أثرا في تفاوت القراءات وتفاضلها، إذ تتنوع بحسب رواتها كثرة وقلة وقوة وضعفا.
وثمة اعتبارات أخرى تعطي القراءات مجالا أوسع في تعداد أنواعها، وسيتناول هذا المبحث منها ما يخص الحكم منها، حيث ستتم دراسة القراءات من جهة المقروء به وغير المقروء به، ومراتب كل منهما.
ما يُقرأ به وما لا يُقرأ به
ليس كل ما يُروى من القراءات تجوز القراءة به الآن، وإذا كان الأمر كذلك فما الذي يُعوّل عليه في ذلك؟ أهو ما جاء عن القراء السبعة أو عن العشرة؟ أو ما توفرت فيه أركان صحة القراءة وإن كان عن غير السبعة و العشرة؟ أو أن المعتمد عليه في ذلك ما ورد في كتب القراءات أو كتب معينة منها ككتاب السبعة والشاطبية والنشر؟
والحق أن الذي يجب أن يعول عليه ما نقل متواترا مشافهة، واستمرّ على هذا النحو، حيث ورد عن غير واحد من الصحابة والتابعين أن القراءة سنة متبعة يأخذها الآخر عن الأول ()، وعن علي بن أبي طالب (ت 40 هـ) رضي الله عنه أنه قال:" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن يقرأ كل رجل كما عُلّم " ().
وذلك أن القراءات لا تضبط إلا بالتلقي والسماع من الشيوخ ومشافهتهم بها كما أخذوها عمن قبلهم هكذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يمثل الشرط الأول في أركان القراءة، وهو صحة النقل، والشرطان الآخران وهما الرسم والعربية لازِمان لهذا النوع من القراءات المقروء بها ().
وليس كل ما شُوِفهَ به يُقرأ به اليوم، بل لابد من اتصاله بأهل العصر، ولذلك فإن كثيرا من القراءات كان يقرأ بها ()، بيد أن انقطاع إسنادها مشافهة لقصور الهمم أدى إلى إهمالها ومن ثم لم تتصل، وعليه فلا تجوز القراءة بها الآن.
والذي عليه قراءة هذا العصر هو ما اتصل بالقراء العشرة، وهم:
ابن عامر الشامي (ت 118 هـ) وابن كثير المكي (ت 120 هـ) وعاصم بن أبي النَّجود (127 هـ) وأبو عَمرو البصري (ت 154 هـ) وحمزة الزيات (ت 156 هـ) ونافع المدني (ت 169 هـ) والكسائي (ت 189 هـ) والثلاثة الذين يكتمل بهم العشرة، وهم أبو جعفر المدني (130 هـ) ويعقوب الحضرمي (ت 205 هـ) وخلف البزار (ت 229 هـ).
وليس كل ما يُعزى إلى هؤلاء يُقرأ به، بل لا يقرأ إلا بما ثبت عنهم على وجه المشافهة دون انقطاع ().
وليس لأحد أن يقرأ بأوجه القراءات المقروء بها عن الأئمة العشرة إلا إذا شافهه بها، لأن القراءة سنة متبعة يأخذها الآخر عن الأول كما تقدم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ): " ولم ينكر أحد من العلماء قراءة العشرة، ولكن من لم يكن عالما بها أو لم تثبت عنده ... فليس له أن يقرأ بما لا يعلمه" ().
والذي لا يقرأ به أكثر مما يقرأ به، فإن في سورة الفاتحة ما يناهز خمسين اختلافا من غير المقروء به، وفي سورة الفرقان نحو مائة وثلاثين موضعا ().
وما ترك من القراءات له أصل في الشرع، وإلا كانت الأمة آثمة بعدم أدائه، وهذا الأصل هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث الأحرف السبعة: " فاقرؤوا ما تيسر منه " ()، حيث دلّ الحديث على أن نقل جميع حروف القراءات ليس نقل فرض وإيجاب، وإنما كان أمر إباحة وترخيص ()، وبذلك يظهر وجه علّة الأوجه والروايات التي كان يقرأ بها في الأمصار عن الأئمة السبعة أو العشرة ثم اندثرت، مثال ذلك قول الحافظ أبي العلاء (ت 569 هـ) في مقدمة غايته: " فإن هذه تذكرة في اختلاف القراء العشرة الذين اقتدى الناس بقراءتهم، وتمسكوا فيها بمذاهبهم من أهل الحجاز والشام والعراق " ()، ثم ذكر بعد ذلك رواتهم ومنهم شجاع ابن أبي نصر (190 هـ) وأبو زيد الأنصاري (ت 215 هـ) عن أبي عمرو البصري (ت 154 هـ)، وقتيبة ابن مِهْران (ت بعد 200 هـ) عن الكسائي (ت189 هـ) وغيرهم، في حين أن روايات هؤلاء وأمثالهم لا يقرأ بها الآن ().
¥