14 - قال: " يجب التأويل في بعض الأحيان، بل نقول: إنه يتعين التأويل؛ كما في الحديث الصحيح: (الحجر الأسود يمين الله في أرضه)، وكما قال تعالى عن سفينة نوح: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ}، فهل السفينة تجري في عين الله؟ أم المراد: تسير بحفظنا ورعايتنا، فإذا لم نؤِّولها؛ فسد المعنى تمامًا.
وكيف نقول في الحديث القدسي، (ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته؛ كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)، فما رأي السادة الأعلام؟! أليس فيه حجة ومتمسك لمن يقولون بوحدة الوجود، والذين يزعمون الحلول والاتحاد؟ أم نقول: يتعين هذا التأويل.
وما هو المعنى المراد من الحديث الشريف (إن تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا، وإن جاءنى يمشي، أتيته هرولة) ألا يجب التأويل؟ فلماذا نحكم بضلال الأشاعرة بسبب التأويل ونبيح لأنفسنا التأويل؟.
- الجواب: أن نقول نعم؛ نحكم بضلال من أوَّل صفات الله تعالى عما دلت عليه من المعنى الحق، وحاول صرفها إلى غير معانيها الحقيقية من الأشاعرة وغيرهم، وإن لم يكن هذا ضلالًا؛ فما هو الضلال؟!
قال تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ}.
وأما ما استدللت به على وجوب التأويل في بعض الأحيان؛ فلا دلالة فيه لما تريد، وبيان ذلك كما يلي:
أ – قوله - صلى الله عليه وسلم – (الحجر الأسود يمين الله في الأرض)؛ قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في (مجموع الفتاوى): (6/ 397):
إنه " قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد لا يثبت، والمشهور إنما هو عن ابن عباس، ومن تدبر اللفظ المنقول؛ تبين له أنه لا إشكال فيه إلا على من لم يتدبره؛ فإنه قال: (يمين الله في الأرض)، فقيَّده بقوله (في الأرض)، ولم يطلق فيقول: يمين الله. وحكم اللفظ المقيد يخالف حكم اللفظ المطلق. ثم قال: " فمن صافحه وقبَّله؛ فكأنما صافح الله وقبل يمينه " معلوم أن المشبه غير المشبه به، وهذا صريح في أن المصافِح لم يصافح يمين الله أصلًا، ولكن شُبِّه بمن يصافح الله، فأول الحديث وآخره يبين أن الحجر ليس من صفات الله؛ كما هو معلوم عند كل عاقل " انتهى.
وقد تبين بهذا أولا: أن الحديث ليس بصحيح كما توهمه الصابوني.
وثانيًا: ليس فيه دلالة على تأويل الصفات.
ب – وقوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}؛ معناه: بمرأى منا، ولا يفهم من ظاهر الآية ما قاله فضيلة الشيخ أن السفينة تجري في عين الله، وليس هو ظاهر اللفظ حتى يحتاج إلى تأويل؛ لأنه قال: {بِأَعْيُنِنَا}، ولم يقل: في أعيننا، ومعلوم الفرق بين اللفظتين، فهي كقوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}.
قال الشوكاني في " فتح القدير ": " {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}؛ أي: بمرأى منا، بنظر منا، وفي حفظنا وحمايتنا؛ فلا تبال بهم ".
ج – وأما حديث: (كنت سمعه الذي يسمع به. . . إلخ)؛ فأول الحديث وآخره يبين المراد منه، وهو أن العبد إذا اجتهد في التقرب إلى الله بالفرائض، ثم بالنوافل؛ أحبه الله، وسدده في جميع تصرفاته.
قال الحافظ ابن رجب في " شرح الأربعين ": " فمتى امتلأ القلب بعظمة الله تعالى؛ محا ذلك من القلب كل ما سواه، ولم يبقِ للعبد من نفسه وهواه، ولا إرادة إلا ما يريده منه مولاه، فحينئذ لا ينطق العبد إلا بذكره، ولا يتحرك إلا بأمره، فإن نطق نطق بالله وإن سمع سمع به، وإن نظر نظر به، وإن بطش بطش به " انتهى.
ويوضح ذلك قوله في آخر الحديث: (ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذَنَّه)، فالله يسدده في تصرفاته، ويعطيه ما سأله، ويؤمنه مما يخاف. . .
هذا ما يدل عليه الحديث، ولا يحتمل غير هذا المعنى حتى يحتاج إلى تأويل؛ لأنه معلوم قطعًا بالأدلة والفطرة والمعقول أن الله سبحانه لا يحلُّ في شيء من خلقه، فلا حاجة إلى التأويل؛ كما زعم الصابوني سامحه الله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في (مجموع الفتاوى) (2/ 271 - 272):
¥