تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

طرق الحج: جسور للتواصل الحضاري بين الشعوب ... للدكتور محمود علي مكي.

(ظل البحر المتوسط بحيرة إسلامية تمخره مراكب المسلمين من مرافيء الأندلس والمغرب إلى المشرق حتى قرب نهاية القرن الخامس الهجري. ولكن الأحوال بدأت في التغير خلال هذا القرن، إذ شرعت موازين القوى في الاختلال، فرأينا القوى المسيحية تزاحم المسلمين بقوة في المشرق والمغرب على سواء. أما في الشرق فإن الضعف المتزايد للخلافة العباسية مكن الدولة البيزنطية من استعادة زمام المبادرة، فإذا بها تستولى على كثير من الثغور الإسلامية في شمال الشام والجزيرة، وتسترد الجزر التي كانت بأيدي المسلمين في شرقي حوض البحر المتوسط مثل قبرص ورودس وإقريطش (كريت)، ثم لانصل إلى آخر القرن الخامس حتى تطالعنا حملات الصليبيين منذ سنة 494هـ (1099م) تستولى على السواحل الشامية وتقيم فيها إمارات مسيحية، وأما في الغرب فإن القوى البحرية الإسلامية يداخلها الضعف بالتدريج، نرى مظاهر لذلك في فشل الأسطول القوى الذي أنشأه مجاهد العامري صاحب دانية وجزر البليار في حملته على جزيرة سردانية سنة 406هـ (1014م)، وبين منتصف هذا القرن وأواخره تستولى مملكتا قشتالة وأرغون المسيحيتان على طليطلة (478هـ/1085م) وسرقطة (512هـ/1118م) وهما من كبريات الحواضر الأندلسية. صحيح أن المرابطين الذين خلعوا ملوك الطوائف بنوا أسطولاً قويا أوجدوا به نوعاً من التوازن في غرب البحر المتوسط، غير أن هذا التوازن لم يلبث أن اختل بدوره بعد انهيار دولة المرابطين في منتصف القرن السادس الهجري، واستيلاء النورمنديين على جزيرة صقلية وجنوبي إيطاليا ابتداء من سنة 464هـ (1072م)، وقيام جمهوريات في عدد من المواني الإيطالية مثل جنوة وبيشة (بيزا) والبندقية أصبحت أساطيلها التجارية والحربية هي المهيمنة على الحوض الغربي للبحر المتوسط.

وترتب على انقلاب الأوضاع على هذا النحو أن البحر المتوسط لم يعد آمناً لرحلات حجاج المغرب والأندلس إلى البقاع المقدسة، مما جعل الكثيرين منهم يؤثرون الطريق البرى على الرغم من البطء الذي تتسم به الرحلات عبره، ومن الأخطار التي يتعرض لها المسافرون من غارات قطاع الطرق عليهم حينما تعجز الحكومات عن الحفاظ على الأمن عبر تلك الطرق. وقد أدى ذلك إلى ظاهرة قد تبدو غريبة لأول وهلة، غير أنها أصبحت مقبولة لدى المسلمين، وهي أن يستخدم الحجيج مراكب مسيحية في رحلاتهم بين المشرق والمغرب، وكثيراً ما كانت هذه المراكب تتوقف في طريقها في مواني مسيحية أو إسلامية استولى عليها الصليبيون، فالواقع أن العلاقات بين أهل المغرب والأندلس والمسيحيين التي استولى عليها الصليبيون لم تكن دائما علاقات حرب وعداء، بل كانت هناك اتفاقات مبرمة لانعرف تفاصيلها بين الجابين، وكانت تكفل أمن المسافرين وسلامتهم في هذه الرحلات، فالرحالة ابن جبير (ت 613هـ/1217م) يعترف في رحلته التي قام بها في عودته من الحج بأنه أقلع في سنة 579هـ (1184م) من ميناء عكا ـ وكانت سواحل الشام في قبضة الصليبيين ـ على متن سفينة مسيحية أوصلته إلى الساحل الأندلسي مارة في طريقها بصقلية، وفي هذه المناسبة يشيد بسياسة ملكها النورمندي الذي كان يكفل الأمن للحجاج المسلمين النازلين بمدن الجزيرة. وسنرى مثل ذلك أيضا في رحلة أبى مروان الباجي بعد نحو نصف قرن بين سنتي 634 و 635 (1236 أ ـ 1237م).

على أن هذا التطور الذي طرأ على الأوضاع السياسية والأمنية أدى إلى أن عدداً من علماء المسلمين شعروا بضرورة إعادة النظر في أولوية الفريضة نفسها، وذلك في المفاضلة بين الحج والجهاد، ولعل أول من طرح هذه المسألة هما إثنان متعاصران أحدهما أندلسي مهاجر إلى المشرق هو أبوبكر الطرطوشي (ت 520هـ/ 1126م) والآخر هو قاضي الجماعة بقرطبة أبو الوليد ابن رشد الجد المتوفي في نفس السنة. أما الأول فقد كان صريحاً في قوله إن " الحج حرام على أهل المغرب، فمن خاطر وحج فقد سقط فرضه، ولكنه آثم بما ارتكب من الغرر> وأما ابن رشد فيبدو أن فتواه كانت في عقب الحملة الجريئة التي قام بها ألفونسو الأول الملقب بالمحارب مَلَكَ أرغون واخترق فيها أرض المسلمين من سرقسطة إلى ساحل بلش مالقة في أقصى الجنوب في سنة 519 هـ (1125م) إزاء التخاذل الغريب من جانب المسلمين، وقد حملت هذه الواقعة

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير