تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

4 – أن الزعم بأن اللغة العربية بدع في اللغات بامتياز اللغة المكتوبة فيها عن اللغة المحكية زعم باطل، فالإنجليز يكتبون العلم بلغة لا يفهمها عامتهم، يسمونها لغة علمية، فالعامي من الفرنسيين لا يفهم أبحاث رينان في فلسفة التاريخ، والعامي الإنجليزي لا يفهم ما كتبه سبنسر في فلسفة العمران، والعامي من الألمان لا يفهم ما كتبه شوبنهور في فلسفة الوجود.

5 – أنَّ الذاهبين إلى أن تتَّخذ كلُّ أُمَّة عربيَّة لَهْجَتَها العاميَّة هم القائلون بانحلال العالم العربي وتشتيت شمل الناطقين بالعربية، فإن (أمم أوروبا لم يهملوا اللغة اللاتينية ويستبدلوها إلا بعد أن أصبحت كل أمة منهم دولة مستقلة يهمها الانفصال عن جيرانها أكثر مما يهمها الانضمام إليهم، لما يقتضيه طلب الاستقلال من المنافسة لمسابقيه، ونحن نتعهَّد للمستر ولمور أنَّ الأمم العربية حالما تصير دولاً مستقلة، ويصير كل منها في غِنًى عنِ الأمم الأخرى لا تستنكف من حصر اللغة الفصحى بالكتب الدينية!! أمَّا الآن فقد كفانا من المصائب ما نتحمَّله من إهمال الحكومة المصرية للغة العربية في مدارسها، وإغفال هذه اللغة في أشهر مدارس سوريا الكبرى، ويكفي للشرق ما يَعْتَوِرُه من أسباب الشقاق، حتى لم يبق جامعة غير هذه اللغة؛ فبالله إلا أبقيتم عليها!!).

ومع ذلك كلِّه، فالواقع الملموس يُكَذِّبُ كلَّ دعاوى الهدامين، والتاريخ أصدق من كل ما يكتبون، فقدِ استطاعتِ العربيَّة البدوية أن تساير الحضارة في بغداد، ولم تنهزم أمام الفارسية أو اليونانية أو التركية، واستطاعتْ أن تُسايِرَها في الأندلس بعد أن فَرَضَتْ نفسها على البيئة الجديدة، واستطاعتْ أن تُساير ألوانًا من الحضارات في خلال ثلاثةَ عشرَ قرنًا أو أكثر في بيئات متباينة أشد التباين، وصمدت أمام الغارات المدمرة، وخلالَ الاحتِلال الأجنبي الطويل، ثُمَّ إنَّ قواعدَ النَّحو التي يزعمون أنها معقَّدة قدِ استطاعت أن تعيش أكثر من ألف سنة، أنتج الناس خلالها في مختلف الأمصار العربية وغير العربية ثروةً من الكتب الصحيحة العربية لا تُحصى، وهذه القرون العِشرون أصدقُ شهادة لصلاحية النحو من كل ما يزعمون، ويؤيد هذه الشهادة ويقويها أن الناس كانوا منذ قرن واحد أو أكثر قليلاً لا يكادون يقيمون العربية، ولا يقدر على كتابة مقال سليم اللغة إلا نفر قليل منهم، وقد استطاعوا رغم ما لقيت العربية في أوطانها من حرب الاحتلال الجائر خلال فترة طويلة أن يُجيدوها فهمًا وكتابة في هذه الفترة القصيرة، وهم لم يجيدوها بتبسيط النحو ولا بتبسيط قواعد الكتابة، ولكنهم أجادوها بحفظ النحو، وبحفظ قواعد الكتابة.

ومن المحقق أنَّ الجيل السابق الَّذي نشأ على توقير قواعد النحو وإتقانِها خير من هذا الجيل الذي لا يزال يتقلَّبُ بين مشاريعَ وتجاريبَ للتبسيط والتيسير، تحتاج إلى ألف عام لكي تُثْبِتَ أنَّها لا تقلُّ عن القواعد الَّتِي يقترح الاستغناء عنها، فضلاً عن أن تَفْضُلَها، وترجح عليها، ثُمَّ إنَّ مُزاحَمة العامِّيَّة للعربيَّة ليست شيئًا جديدًا، فقد كانت العربية الفصحى دائمًا لغة أدبية، وكان العرب في جاهليَّتِهم لا يتحدَّثونَها في أسمارهم، ولا في معاملاتهم، ولكنَّها كانَتْ وقْفًا على الشِّعْرِ الرفيع الذي يَفِدُ به أصحابُه على الملوك والأشراف، أو يرحلون به إلى المواسم والأسواق، وكان لهم إلى جانِبِه أدبٌ محلِّيّ يتمثَّل في أرجازهم، وفيما ينشدونه في أسمارهم، مِمَّا أهْملتْهُ كُتب الأدب لِتفاهةِ ما ينطوي عليْهِ مِنَ المعاني والأغراض، ولِضيقِ مَجالِه وقِلَّة عدد المتذوِّقين له [24] ( http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?ArticleID=2111#_ftn24)، على أنه إن أعْوَزَتْنا الأدِلَّة القاطعة على وجود لهجة سوقيَّة إلى جانب اللغة الفصيحة الأدبية في الجاهلية، فليستْ تُعْوِزُنا الأدلة على امتياز لغة الأدب من لهجات الأمصار التي كان يستخدمها الناس في حاجاتِهمُ اليومية منذ القرن الأول الهجري، وهنا يكذِّب التاريخُ مرة أخرى مزاعم الذين يدَّعون أن لا حياة للعربية إلى جانب اللهجات السوقية التي يسمونها في هذه الأيام بالعامية.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير