هذه المقاربة المنهجية ذات صلة وثيقة بما يمكن أن نسميها بالقيم او المؤشرات الدلالية للأصوات أو الحروف العربية. وهذا المبحث في علم اللغة أو فقهها الذي يسميه الإفرنج Philology ، والذي يتعلق في الأساس بموضوع العلاقة بين اللفظ والمعنى،هو في الواقع مبحث قديم في التراث العربي،وقد تنبه إليه نفر من العلماء واللغويين العرب القدماء، ولعل أبرزهم هو: أبو الحسين أحمد بن فارس (329 – 395 هـ)، وخصوصاً في كتابه: " مقاييس اللغة ".
ومن بين الباحثين المعاصرين الذين كتبوا في هذا الموضوع، باحث سوري الجنسية اسمه: " إياد الحصني "، ألف كتاباً بعنوان: " معاني الأحرف العربية "، لم أقف عليه مطبوعاً في صورته الورقية،وإنما وجدت إشارة إليه في مقال منشور بالشبكة العنكبوتية.
فمن طريف ما ذكره الأستاذ إياد الحصني في كتابه المومى إليه فيما يختص بمعاني الحروف العربية ودلالاتها، أن حرف الفاء مثلاً، يدل على الفراغ، او تفريغ الشيء المادي، ويتجلى ذلك في ألفاظ مثل: حفرة، كهف، فتحة، فوهة الخ. وقال إن حرف الحاء يدل على الحب وعلى المعاني الإيجابية، حيث يظهر ذلك في كلمات مثل: حب، حسن، حلو، حياة، حيوية الخ.
ثم إنه ذكر ان حرف الشين – وهذا هو بيت القصيد بالنسبة لنا – يدل على معاني الانتشار والتشعب، مثل: نشر، وشتت، وشعّب، وشعث.وزعم أن حرف الفاء عندما يدخل على لفظ فيه حرف الشين فكأنه يبطل أو يكبح المفعول السلبي للمعنى الذي توحي به الشين ويخفف منه. ومثّل لذلك بألفاظ من قبيل: رشف، وشفط، وشفاء، ثم أضفت إليها أنا من عندي الفاظاً عامية مثل: فشّ (فشّ الورم، وفشّ الغبينة)، وكذلك: فرفش بمعنى: انتعش وابتهج.
وبوسعنا ان نضيف في هذا المقام إلى ما ذهب إليه ذلك الباحث السوري حول دلالة الشين، من أنها لا تقتصر على معاني الانتشار والتشعُّب فحسب،وإنما هي توحي أيضاً بالسوء والبشاعة والقبح والقسوة مطلقاً، كما توحي بعدم الترتيب والنظام، والبعثرة، وذلك بآية ما أنّ هذه الشين تظهر في ألفاظ عديدة تحمل مدلولات سلبية للغاية مثل: البشاعة، والشر، والشقاء، والمشاكل، والشجار، والشحناء، والشنآن الخ .. ولكن رب معترض قد يقول لنا إن الشين تظهر أيضاً في ألفاظ أخرى ذات مدلولات إيجابية مثل: شذى، ومنعش، وشهد الخ. فنقول له: هذا صحيح، ولكن الغالب هوأنها مرتبطة على نحو أكثر بالألفاظ ذوات الدلالات السلبية.
ولعلنا لا نبعد النجعة إذا لاحظنا أن صوت الشين حتى في بعض اللغات الأوروبية كالإنجليزية على وجه التحديد، مرتبط بمعاني السحق والتحطيم والبعثرة، وذلك مثل قولهم Crush و Shatter و Crash ، ويقابل ذلك في بعض العاميات العربية المعاصرة قولهم على سبيل المثال الفعل " دَشْدَش " بمعنى: سحق وحطم، ومنه ما جاء في الأغنية الشعبية السودانية:
القطر الشالك إنتَ يدّشدشْ حتّة حتّة
والقطر الشال معاويةْ يدشدش زاوية زاوية ..
ولقد لاحظت أنا كذلك أن لحرف الشين هذا خاصية دلالية مميزة وجديرة بالتأمل والنظر، والأمر الذي يبعث على الدهشة أن هذه الخاصية تشترك فيها كلا اللغتين الفصخى والعامية، ونعني بذلك خاصية إخلال الشين محل حرف أو صوت آخر من قبيل الكناية أو التخفيف من وقع اللفظ الأصلي في حالة النطق ابلحرف الأصلي وذلاك هو من قبيل ما يعرف بال Euphemism .
فعلى سبيل المثال كان هنالك ملك عربي حكم في بلاد الشام خلال القرون الأولى للميلاد، وكان ذلك الملك يلقب ب " جذيمة الأبرص " نسبة لبرص كان في جسمه،ولكن رعاياه كانوا ينادونه " جذيمة الأبرش " خوفاً منه،أو من عيونه وآذانه وعسسه.
وقد خطر لي في هذا الباب أيضاً، أنّ إخواننا المصريين عندما يصيح الواحد منهم متألماً اومتحسراً او نادباً لحظه قائلاً: " يا خراشي! "، فهو إنما يريد أن يقول " يا خرابي! " بالباء، ولكنه يتطير من أن يدعو على نفسه بالخراب، فيحيل باءها إلى شين، هذه هو اقتراحي في المسألة، وإلاّ فماهو الخراش لغة؟. وشبيه بذلك قول الشبان والأحداث في السودان قي السابق " دِيشَكْ! " بكسر الدال وفتح الشين، أو قولهم: " ينعل ديشك! ". فعندي أن المقصود هو " دِينك " في الحالين، غير أنهم كانوا يتحرجون من ذكر الدين في مثل هذا السياق خوفاً من مغبة رميهم بسوء
¥