تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

الأول: مفهوم التواتر، وهذا يحتاج إلى بحث مستفيضٍ مستقلٍّ؛ لأنه قد أصابه غبشٌ وعدمُ وضوحٍ، فالتواتر في كل علم يختلف، ولا تكاد تجدُ هذه العبارة في كتب السابقين، وإنما تجد عندهم: (قراءة العامة / القراءة المستفيضة / القراءة المشهورة / قراءة قراء الأمصار) وغيرها من المصطلحات التي تدلُّ على شيوع القراءة وانتشارها، أمَّا لفظ التواتر فلم أقف عليه عند من قبل الطبري (ت: 310)، ولا عند ابن مجاهد (ت: 324) الذي سبَّع السبعة، ولا عند الداني (ت: 444) في كتابه التيسير، الذي اعتمده الشاطبي (ت: 590) ونَظَمَهُ في قصيدته اللامية التي صارت تُعرف بالشاطبية. وإنما جاء هذا المصطلح متأخِّرًا بعد تسبيع السبعة بزمنٍ.

فابن مجاهد (ت: 324) يقول في كتابه السبعة (ص: 49): ((والقراءة التي عليها الناس بالمدينة ومكة والبصرة والشام هي القراءة التي تلقوها عن أوَّليهم تلقِّيًا، وقام بها كل في مصر من هذه الأمصار رجلٌ ممن أخذ من التابعين، أجمعت الخاصة والعامة على قراءته وسلكوا فيها طريقه، وتمسكوا بمذهبه)).

وقال في موطن آخر من مقدمته لهذا الكتاب (ص: 87): ((… فهؤلاء سبعة نفرٍ من أهل الحجاز والعراق والشام، خلفوا في القراءة التابعين، وأجمعت على قراءتهم العوامُّ من أهل كلِّ مصر من الأمصار، إلا أن يستحسن رجل لنفسه حرفًا شاذًّا فيقرأ به، من الحروف التي رُويت عن بعض الأوائل منفردة، فذلك غير داخلٍ في قراءة العوامِّ، ولا ينبغي لذي لبٍّ أن يتجاوز ما مضت عليه الأمة والسلف بوجه يراه جائزًا في العربية، أو مما قرأ به قارئ غير مجمع عليه)).

استطراد: من باب المناسبة أدعو الإخوة المتخصصين في العلوم إلى إقامة مدارسات في مقدمات كتب العلوم، ففيها نفائس وقواعد وفوائد لا تُحصى، كما أنها تبيِّن مناهج المؤلفين وشيئًا من مصطلحاتهم وعباراتهم، وقد لمست ذلك في قراءتي لبعض مقدمات كتب التفسير وغيرها من كتب التخصص مع بعض الأصحاب، وفقني الله وإياكم إلى الصواب.

وقال الداني (ت: 444) في التيسير (ص: 2): ((… ويتضمن من الروايات والطرق ما اشتهر وانتشر عند التالين، وصحَّ وثبت عند المتصدرين من الأيمة المتقدمين)).

وهؤلاء الأئمة السبعة الذين تلقت العامة قراءتهم بالقبول، قد يرد عنهم حروف مفردة لم يقبلها العلماء، وهي خارج القراءة العامة التي أقرأ بها الإمام منهم، لذا لا يُعدُّ كل ما روي عنهم في درجة واحدة من القبول، بل ما كان معروفًا بالنقل من الطرق المعتبرة عند أهل هذا الشأن.

وإنما أُشير لهذا ليُعلم أنَّ الحكم بقبول قراءتهم إنما هو فيما اختاروه وأقرءوا به العامة وانتشر، دون تلك الأفراد التي لا يخلو منها إمام منهم.

وإذا تأملت ما ذكره هؤلاء العلماء من أسانيد القراءة وجدتها تقف عند هؤلاء السبعة، فهي في حقيقتها أفراد، لكن لما تلقتها الأمة بالقبول فإنها صارت قراءة مستفيضة مشهورة، وهذا لو كان هو الضابط بدل التواتر لكان، لكن للفظ التواتر سلطان يحتاج إلى تحريرٍ.

ولعلك على خُبرٍ بنِزاع ـ ليس هذا محلُّه ـ وهو ما المتواتر من السبعة، هل هو أفراد القراءات أم مجموعها؟ وهذا من الموضوعات التي تحتاج إلى تنبيه ليتبصَّر به من يكتب في موضوع تواتر القراءات.

وإنه ليس من شكٍّ اليوم بصحة ما تلقته الأمة من كتاب ربها وقرأته على مرِّ العصور بقراءتها العشر التي تلقتها بالقبول جيلاً عن جيلٍ، ولا أودُّ أن يُفهم طرح هذه المسألة للنقاش أن في الأمر شكًّا في تواتر القراءات اليوم، وإنما المراد النظر إلى القراءات في كلِ جيل، والاعتذار لما وقع من بعض العلماء العارفين من ردِّ بعض القراءات، وأنهم إنما ردُّوها بأسلوبٍ علميٍّ مناسب لما تلقوه من القراءات، وليس عن هوى أو جهلٍ منهم.

ولا يصلح اليوم الاستدلال بردِّ هؤلاء العلماء للقراءات اليوم بعد قيام الحجة بقبولها واعتماد تواترها بعد تسبيعها أو تعشيرها.

والأمر أطول مما صورته لك هنا، أسأل الله أن يوفق من يكتب فيه كتابة مستفيضة تجلِّي غامضه، وتبيِّن طرائق العلماء في كلِّ عصر في تلقي القراءة، وكيف وصلت إلى ما وصلت إليه.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير