الثاني: هل ثبت أن ابن جرير أثبت تواتر قراءة ثمَّ أنكرها، فإن كان ثبت ذلك، فهنا الملامة تقع، والإنكار عليه يصح.
لكن الأمر بخلاف ذلك، فما ردَّه أو اعترض عليه لم يكن مما ثبتت استفاضته وشهرته عنده، بل هو عنده في حكم الشاذ الذي لا يُعترضُ به على المستفيض من القراءة.
ومن عباراته في هذا المقام ـ وهي كثيرة:
1 ـ (وما انفرد به من كان جائزًا عليه السهو والغلط، فغير جائز الاعتراض به على الحجة) تحقيق شاكر 16: 4.
2 ـ (الحفاظ الثقات إذا تتابعوا على نقل شيء بصفة، فخالفهم واحد منفرد ليس له حفظهم = كانت الجماعة الأثبات أحقَّ بصحة ما نقلوا من الفرد الذي ليس له حفظهم) تحقيق شاكر 9: 566.
ولأضرب لك مثالاً تطبيقيًّا ناقش فيه ابن جرير قراءة حُكِمَ عليها بالتواتر بعده، فقد أورد في قوله تعالى: (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (آل عمران:36).
قال: ((واختلف القرأة في قراءة ذلك، فقرأته عامة القراء: (وَضَعَتْ)، خبرًا من الله ـ عز وجل ـ عن نفسه أنه العالم بما وضعت من غير قِيلِها: (رب إني وضعتها أنثى).
وقرأ ذلك بعض المتقدمين: (والله أعلم بما وضعتُ)، على وجه الخبر بذلك عن أم مريم أنها هي القائلة: والله أعلم ـ بما ولدت ـ مِنِّي.
وأولى القراءتين بالصواب: ما نقلته الحجة مستفيضة فيها قراءته بينها، لا يتدافعون صحتها، وذلك قراءة من قرأ: (والله أعلم بما وضعتْ)، ولا يُعْتَرَضُ بالشاذِّ عنها عليها)) تفسير الطبري، تحقيق د/ عبد الله التركي (5: 336).
والقراءة التي اختارها هي قراءة نافع وابن كثير وحفص عن عاصم وأبي عمرو وحمزة والكسائي.
والقراءة التي حكم عليها بالشذوذ هي قراءة أبي بكر عن عاصم وابن عامر.
والقراءتان بالنسبة لنا قراءتان سبعيَّتان مقبولتان بلا إشكال، لكن كانت القراءة الأخرى بالنسبة للطبري (ت: 310) شاذَّةً لمخالفتها قول الجمهور من القراء، وقراءة الجمهور عنده معتبرة، وهو يحكيها على أنها إجماعٌ والإجماع حجة، وما خالف الإجماع من قول الواحد والاثنين فلا اعتبار به عنده، وعلى هذا سار في حكاياته للإجماع في التفسير والقراءات وغيرهما.
وعلى هذا فهو سائر على منهجٍ علميٍّ صحيح، لكن النتيجة التي حكم بها يخالفه غيره فيها، وقول غيره هو المقدم، وهم جمهور علماء القراءة الذين قبلوا هذه القراءة التي شذَّذها.
ومن هنا أقول: إنَّ الحكم بشذوذ القراءة عند الطبري وغيره مما يحتاج إلى دراسة وبحث عميق.
وأعود فأقول: إنه إذا كان يحكم على القراءة بالشذوذ بالنسبة إلى ما وصله من علم بهذه القراءة، فكيف يقال إنه ينكر القراءة المتواترة، أو أنه يردها؟!
هل أثبت الطبري تواترها ثمَّ طعن فيها وردَّها؟!
ولو تنبَّه من اعترض على ابن جرير إلى هذه المسألة لما أصدر هذا الحكم، وهو أنَّ ابن جرير ينكر القراءات المتواترة، أو يعترض عليها وينتقدها.
ثمَّ إنَّ ابن جرير له منهجٌ علميٌّ واضح في نقد القراءات، وهذا المنهج الذي تبِعه لم يكن بدعًا فيه، بل سار عليه فيه من قبله، كما سار عليه من بعدَه.
وقد أشار إلى طرفه في كتابه الجامع، قال أبو عبد الله المنتوري (ت: 834) في كتابه شرح الدرر اللوامع في أصل مقرأة نافع (2: 864): ((وقال الطبري في الجامع: ثم كل من اختار حرفًا من المقبولين من الأئمة المشهورين بالسنة والاقتداء بمن مضى من علماء الشريعة = راعى في اختياره:
الرواية أوَّلاً.
ثمَّ موافقة المصحف الإمام ثانيًا.
ثم العربية ثالثًا.
فمن لم يراع الأشياء الثلاثة في اختياره لم يُقبل اختياره، ولم يتداولْه أهل السنة والجماعة)).
وهذه الأصول الثلاثة التي أشار إليها هي التي سار عليها العلماء في توثيق القراءة ونقدها، ولهم في ذلك نصوص وتطبيقات يعرفها من قرأ في كتب القراءات وتوجيهها.
¥