قال تعالى: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) (القصص: 23 ـ 28).
أولاً: مدين قرية عربية، وهي في شمال الجزيرة على الجانب المقابل لمصر.
وهذا يعني أنَّ سكانها عربٌ يتكلمون العربية وقت موسى عليه السلام.
والملاحظ أنَّ موسى عليه السلام لم يحتج إلى ترجمانٍ للحديث مع المرأتين.
ولا يقال: إن وجود الترجمان محتملٌ، إذ إن ذلك يلزم منه أن موسى عليه السلام صار يتكلم لغته ويبحث عمن يعرفها ثمَّ ذهب إلى المرأتين ووقع الخطاب، ثم جاءت البنت وكلمت الترجمان، ثم كلم الترجمان موسى عليه السلام ... الخ.
لا شكَّ أن تصور ذلك وافتراضه غير مرضيٍّ.
كما أن افتراض أنهم تكلموا بلغة الإشارة والرموز غير وجيه كذلك.
فإذا كان موسى عليه السلام قد كلَّمهما مباشرة دون ترجمان، فما اللغة المشتركة التي كانوا يتحدثونها.
الذي يبدو ـ ظنَّا ـ أنها عربية تلك الزمان، كانت مثل ما هي عليه اليوم لهجات العرب في مصر والجزيرة والشام والعراق، حيث يمكن أن يتخاطب أولئك بلهجاتهم، ويفهم بعضهم من بعضٍ.
فهل يا تُرى يحتاج المصري اليوم إلى ترجمان له إذا دخل مدينة ينبع؟
الذي يبدو أن الحال كان كما هو عليه اليوم، وإنما الأمر لا يعدو لهجات يتكلم بها كل أهل منطقة.
لا تستغرب ذلك، فهل هناك ما يدل على غيره؟
هل كانت مصر في يوم من الأيام بمعزل عن الاتصال بهذه البقعة العربية من جزيرة العرب؟
إذن كيف اختار موسى مدين، وجاء إليها إلا أن يكون هناك تواصل بينها وبين مصر.
واسمح لي أن أسألك عن لغة موسى ما هي؟
وكأني بك ستقول: العبرية (سيأتي حديث عنها في مقال لاحق إن شاء الله).
وأقول لك: من أين تولدت هذه اللغة؟
وهل بقيت لغة يعقوب عليه السلام وأبنائه الاثني عشر صامدة أمام لغة المصريين حتى زمن موسى عليه السلام (يُقدَّر الزمن بين موسى ويوسف عليهما السلام بستة قرونٍ تقريبًا)؟
لا يمكن تصوُّر هذا البتة، إلا أن يكونوا في معزل تامٍّ عن مجتمعهم، وذلك ما لم يكن.
ولعلك تقول: إن لغة العبادة بين بني إسرائيل يمكن أن تكون بقيت.
فأقول لك: حتى لو بقيت هذه اللغة، فإنها لا تعدو ثلة من الأحبار قَرَأَةِ الكتب، أما عامة بني إسرائيل فسيتكلمون باللغة التي تسيطر على المدينة التي يقطنونها، كما هو الحال فيهم لما سكنوا جزيرة العرب انتظارًا لنبي آخر الزمان، لعله أن يخرج منهم.
إن الموضوع كما ترى شائك متشابك، لكن يكفيني أن أدعوك معي إلى التفكير من جديد في هذا الموضوع.
تنبيهان:
الأول: لا يصحُّ أن الذي نزل عنده موسى هو النبي شعيب عليه السلام، لبعد ما بينهما في الزمن، وإن كان اسمه شُعيبًا، فلعله غير النبي عليه السلام، وقد حقق ذلك جمع من العلماء، منهم شيخ الإسلام في رسالة خاصة في ذلك، وهي في الجزء الأول من اجمع المسائل والرسائل الذي حققه الدكتور محمد رشاد سالم رحمه الله.
الثاني: اسم زوجة موسى عليه السلام (صِفُّورة)، وهو اسم عربي دخله التحوير، والأصل (عصفورة)، وقد ذكر مؤلفو (قاموس الكتاب المقدس / ص: 544) هذه المعلومة، فقالوا:» صِفُّورة: اسم مدياني معناه عصفورة «.
¥